Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 208-212)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلسِّلْمِ } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة . وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { ٱلسِّلْمِ } بكسر السين - للإِسلام ، و { ٱلسِّلْمِ } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة . قال الفخر الرازى وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } والإِسلام إنما سمى إسلاما لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " . و { كَآفَّةً } أى جميعاً . وهى فى الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهى حال من قوله { ٱلسِّلْمِ } أى يأيها المؤمنون ادخلوا فى الإِسلام والتزموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه . وبعضهم يرى أن قوله { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه ادخلوا فى الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذى ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً . وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { ٱلسِّلْمِ } أو من فاعل { ٱدْخُلُواْ } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذى ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف . وإذا كان المراد بكلمة { ٱلسِّلْمِ } المسالمة والمصالحة كان المعنى يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوى الذى يرد الاعتداء بمثله . هذا هو المعنى الذى نراه ظاهراً فى الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين . وبعضهم ذكر أن الخطاب فى الآية لمؤمنى أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبى صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا وقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمنى أهل الكتاب . وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم فى الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان . وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة فى دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء . وقوله { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول فى السلم . أى أدخلوا فى السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل . والخطوات . جمع خطوة - بفتح الخاء وضمها - وهى ما بين قدمى من يخطو . وفى قوله { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذى يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وقوله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهى ومبينة لحكمته . وقوله { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تفريع على النهى ، وترهيب من العقاب الذى سيصيب المتبعين للشيطان . قال القرطبى وأصل الزلل فى القدم ، ثم استعمل فى الاعتقادات والآراء وغير ذلك . يقال زل يزل زلا وزللا وزلولا ، أى دحضت قدمه . والبينات جمع بينة ، وهى الأدلة والمعجزات ، ومجيئها ظهورها . والمعنى فإن تنحيتم عن طريق الحق ، وعدلتم عنه إلى الباطل ، من بعد أن ظهرت لكم الأدلة المفرقة بين الصواب والخطأ ، والتى تدعوكم إلى اتباع طريق الحق ، فاعلموا أن الله { عَزِيزٌ } لا يقهر ولا يعجزه الانتقام ممن زل { حَكِيمٌ } لا يترك ما تقتضيه الحكمة وإنما يضع الأمور فى مواضعها . وجىء فى الشرط بإن ، لندرة حصول الزلل من المؤمنين ، إذ الشأن فيهم ذلك . وقوله { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } جواب الشرط . وقوله { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } قطع لعذرهم حتى لا يقولوا يوم الحساب إننا زللنا لأننا لا نعرف الحق من الباطل . وفى الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به - كما قال القرطبى - . وقال الفخر الرازى ما ملخصه " وقوله { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } نهاية فى الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف مالا يجمعه الوعيد بذكر العقاب . وربما قال الوالد لولده إن عصيتنى فأنت عارف بى وأنت تعلم قدرتى عليك وشدة سطوتى . فيكون هذا الكلام فى الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره . فإن قيل أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد ؟ قلنا نعم من حيث أتبعه بقوله { حَكِيمٌ } فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسىء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسىء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة " . وبعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول فى السلم كافة ، ونهاهم عن الزلل عن طريقه المستقيم ، عقب ذلك بتهديد الذين امتنعوا عن الدخول فى السلم فقال { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فى ظُلَلٍ … } . ينظرون أى ينتظرون . يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد . وظلل جمع ظلة . كظلم جمع ظلمة - وهى ما أظلك من شعاع الشمس وغيره . والغمام اسم جنس جمعى لغمامة ، وهى السحاب الرقيق الأبيض ، سمى بذلك لأنه يغم ، أى يستر . ولا يكون الغمام ظلة إلا حيث يكون متراكباً والاستفهام للإِنكار والتوبيخ . والمعنى ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول فى الإِسلام من بعد ما جاءتهم البينات ، إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة فى ظل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم ، وتأتيهم ملائكته الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو - سبحانه - . وإتيان الله - تعالى - إنما هو بالمعنى اللائق به - سبحانه - مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث ، وتفويض علم كيفيته إليه - تعالى - . وهذا هو رأى علماء السلف . وقوله { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } معناه على هذا الرأى أتم - سبحانه - أمر العباد وحسابهم فأثيب الطاتع وعوقب العاصى ، ولم تعد لدى العصاة فرصة للتوبة أو تدارك ما فاتهم . وقد ارتضى هذا الرأى عدد من المفسرين منهم ابن كثير فقد قال فى معنى الآية يقول الله - تعالى - مهدداً للكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فى ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } يعنى يوم القيامة نفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزى كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ! ! ولهذا قال - تعالى - { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } . أما علماء الخلف فيؤولون إتيان الله بما يتناسب مع ذاته - سبحانه - ، ولذا فسروا إتيانه بأمره أو بأسه فى الدنيا . وقد عبر صاحب الكشاف عن وجهة نظر هؤلاء بقوله " إتيان الله إتيان أمره وبأسه كقوله { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } { جَآءَهُمْ بَأْسُنَا } ويجوز أن يكون المأتى به محذوفاً ، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله - قبل ذلك - { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . فإن قلت لم يأتيهم العذاب فى الغمام ؟ قلت لأن الغمام مظنته الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أى تم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه . وقال الجمل ما ملخصه وقوله { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } استئناف مفرغ من مقدر ، أى ليس لهم شىء ينتظرونه إلا إتيان العذاب وهذا مبالغة فى توبيخهم وقوله { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } بالرفع عطفا على اسم الجلالة أى ، وتأتيهم الملائكة فإنهم وسائط فى إتيان أمره - تعالى - ، بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة . وقرأ الحسن وأبو جعفر والملائكة بالجر عطفا على ظلل ، أى إلا أن يأتيهم فى ظلل وفى الملائكة . وقوله { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } فيه وجهان أحدهما أن يكون معطوفاً على يأتيهم داخلا فى حيز الانتظار ويكون ذلك من وضع الماضى موضع المستقبل والأصل ويقضى الأمر وإنما جىء به كذلك لأنه محقق كقوله { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } والثانى أن يكون جملة مستأنفة برأسها أخبر الله - تعالى - بأنه قد فرغ من أمرهم فهو من عطف الجمل وليس داخلا فى حيز الانتظار . ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بقوله { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أى إليه وحده - سبحانه - لا إلى غيره ولا إلى أحد معه تصير الأمور خيرها وشرها وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد قضاء أمره ، ونفاذ حكمه ، وتمام قدرته . ثم بين - سبحانه - أن كفر الكافرين ليس سيبه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين ، وإنما سببه الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى ، بدليل أن بنى إسرائيل قد آتاهم الله آيات بينات تهدى إلى الإِيمان ومع ذلك كفروا بها . استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين فى الآية السابقة فيقول { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ … } . قال الفخر الرازى اعلم أنه ليس المقصود سل بنى إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله - تعالى - إياه ، بل المقصود منه المبالغة فى الزجر عن الإِعراض عن دلائل الله - تعالى - . أى سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله - تعالى - ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا فى العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه . والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم … " . و { سَلْ } فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت . ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضاً . و { كَمْ } إما خبرية والمسئول عنه محذوف ، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإِعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع والتوبيخ . كأنه قيل { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها . وإما استفهامية والجملة فى موضع المفعول الثانى لقوله { سَلْ } وقيل فى موضع المصدر ، أى سلهم هذا السؤال . وقيل فى موضع الحال . أى سلهم قائلا كم آتيناهم . والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإِقرار - بأنه قد خالف ما تقتضيه الآيات من الإِيمان بالله - تعالى - . فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد فيقول لمن حضره سله كم أنعمت عليه ؟ ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التى أظهرها الله - تعالى - لبنى إسرائيل على أيدى أنبيائهم ليؤمنوا بهم عصا موسى التى ألقاها فإذا هى حية تسعى والتى ألقاها فإذا هى تلقف ما صنعه السحرة ، والتى ضرب بها البحر { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق ، ومع ذلك فمنهم من قال لموسى { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } ومنهم من كفر وعبد العجل … ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الجاحدين لآياته فقال { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . التبديل جعل شىء بدلا عن آخر ، ونعمة الله هنا تتناول آياته الدالة على صدق رسله ، كما تتناول ما أسبغه الله على عباده من صحة ومال وعقل وغير ذلك من نعمه الظاهرة والباطنة . أى ومن يبدل نعم الله بعد ما وصلت إليه واتضحت له ، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإِيمان ، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقاباً شديداً . وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } زيادة توبيخ لهم ، وأنهم مستحقون لأشد ألوان العذاب ، لأنهم قد كفروا بآيات الله وجحدوا نعمه بعد معرفتها والوقوف على تفاصيلها . فهو كقوله - تعالى - { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهو تبديل عن معرفة لا عن جهل أو خطأ . وقوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } تعليل للجواب أقيم مقامه . أى ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب فلا يفلت منه أحد . ويحتمل أن يكون هذه الجملة هى الجواب بتقدير الضمير أى شديد العقاب له . والعقاب هو الجزاء عن جناية وجرم ، وهو مأخوذ - كما يقول القرطبى - من العقب ، كأن المعاقب يمشى بالمحازاة للجانى فى آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب - أى الموضع الذى يركب منه - ، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقبه بذنبه . فالآية الكريمة وعيد شديد لكل من يبدل نعم الله ، ويترك شكرها . وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التى حملت أولئك الأشقياء على البقاء فى كفرهم وجحودهم فقال - تعالى - { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } . … الآية . التزيين جعل الشىء زينا أى ، شديد الحسن . والحياة نائب فاعل ، زين ، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازى التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل . والمعنى ، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم ، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها . قال القرطبى والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها " . وقوله { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ } معطوف على جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ … } . أو خبر لمبتدأ محذوف أى وهم يسخرون وتكون الواو للحال . ويسخرون يضحكون ويهزأون . يقال . سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به . أى أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم فى متع الحياة ، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم فى غير متعة فهو ضياع منها ، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه فى دنياهم ، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذى هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا . وجىء بقوله { زُيِّنَ } ماضيا للدلالة على أنه قد وقع وفرغ منه . وجىء بقوله { وَيَسْخَرُونَ } مضارعاً للدالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر . قال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ … } وقد ذكر بعض المفسرين فى سبب نزول هذه الآية روايات منها أنها نزلت فى المنافقين عبد الله بن أبى وحزبه ، كانوا يتنعمون فى الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم . ومنها . أنها نزلت فى أبى جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخباب وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء . والحق أنه لا مانع من نزولها فى شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين . وقوله { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } رد منه - سبحانه - على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين ، والذين يرون أنفسهم أنهم فى زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين فى نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها . أى ، والذين اتقوا الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة ، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين ، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلى النار وبئس القرار . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم قال { مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ثم قال { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } ؟ قلت ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك . وقيدت الفوقية بيوم القيامة للننصيص على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية ، ولإِدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم فى الدنيا . وقوله { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تذييل قصد به تشريف المؤمنين ، وبيان عظم ثوابهم . أى والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق . أو بلا حصر وعد لما يعطيه . أو أنه لا يخاف نفاد ما فى خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها . فهو - سبحانه - الذى يعطى ويمنع ، وليس عطاؤه فى الدنيا دليل رضاه عن المعطى فقد يعطى الكافر وهو غير راض عنه ، أما عطاؤه فى الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه . قال الأستاذ الإِمام إن الرزق بلا حساب ولا سعى فى الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد ، فإنك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقى يكون دائماً أسعد حالاً وأكثر احتمالا ، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلمه الفاجر لأنه يجد فى التقوى مخرجاً من كل ضيق … وأما الأمم فأمرها على غير هذا ، فإن الأمة التى ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه … وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهى لا تعمل ، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها … " . ثم بين - سبحانه - أحوال الناس ، وأنهم فى حاجة إلى الرسل ليبشروهم وينذروهم ويحكموا بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فقال - تعالى - { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ … } .