Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-22)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ففى هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذى خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التى تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته . و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء . و " أى " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذى يأتى بعده . و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء . و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية . وقد كثر النداء فى القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذى كثيراً ما يقتضيه المقام . وفى ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته . فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكا له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال . وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله . ثم بين - سبحانه - الموجبات التى من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } . والخلق أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق فى القرآن وفى عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر . والمعنى اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذى أوجدكم فى أحسن تقويم بعد أن كنتم فى عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم . وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره . وقوله تعالى { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . فكان قوله { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى . وجملة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت . و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجى ، وهو توقع حصول الشىء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشىء المتوقع حصوله فى الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درجة التقوى وهى الفوز بالهدى والفلاح ، والترجى قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل فى الكلام على أن يكون الترجى مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجى هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجى فى هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشىء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشىء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية فى الهدى والفلاح . ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } . الفراش ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أى اجعلوا عبادتكم لله الذى صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكى يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب فى مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله فى باطنها من خيرات . وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافى كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح فى إمكان الانتفاع بها . { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } يقال لسقف البيت بناء أى جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء . قال بعض الأدباء " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " . ثم قال - تعالى - { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } السماء السحاب . والثمرات ما ينتجه الشجر . والرزق ما يصلح لأن ينتفع به . والباء فى . به للسببية . أى أنه جعل الماء سبباً فى خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب . وأورد { مَآءً } و { رِزْقاً } فى صيغة التنكير التى تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذى وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم . ثم قال - تعالى - { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . الأنداد جمع ند ، وهو مثل الشىء الذى يضاده وينافره ويتباعد عنه . وأصله من ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً . والمعنى فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أى وأنتم من ذوى العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لانصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده . ولتركتم الإِشراك به . وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده . وسمى القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذى هو مصب النهى فى الآية . وجملة { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفى هذه الجملة مبالغة فى زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوى العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربى الناجح أن يجمع بين القسوة فى النهى عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته . هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التى تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول الله أى الذنب أعظم عند الله ؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " . قال الإِمام ابن كثير وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل ما الدليل على وجود الله - تعالى - ؟ فقال يا سبحان الله ! ! إن البعير ليدل على البعير وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير . وبعد أن ساق - سبحانه - فى هاتين الآيتين البراهين الساطعة الدالة على وحدانية الله ونفى عقيدة الشرك ، أورد بعد ذلك الدلائل الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر ، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر فقال - تعالى - { وَإِن كُنْتُمْ فى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ … وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .