Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 255-255)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال بعضهم هذه آية الكرسى أفضل آية من القرآن . ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر منه على غيرها من الآيات . هذا هو التحقيق فى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض . وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإِله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى . جاء فى الحديث الشريف عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لكل شىء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وفيها آية هى سيدة القرآن - أى أفضله - وهى آية الكرسى " . وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جمل فيها ما فيها من صفات الله الجليلة - ونعوته السامية . أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل فى قوله - تعالى - { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } . ولفظ الجلالة { ٱللَّهُ } يقول العلماء إن أصله إله دخلت عليه أداة التعريف " أل " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله . قال القرطبى قوله { ٱللَّهُ } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها ، حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع ، فالله اسم الموجود الحق الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى ، لا إله إلا هو - سبحانه - " . ولفظ { إِلَـٰهَ } قالوا إنه من أله فلان يأله أى عبد . فالإِله على هذا المعنى هو المعبود ، وقيل هو من أله أى تحير … وذلك أن العبد إذا تفكر فى صفاته - سبحانه - تحير فيها ولذا قيل " تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله " . و { ٱلْحَيُّ } أى الباقى الذى له الحياة الدائمة التى لا فناء لها . لم تحدث له الحياة بعد موت ، ولا يعتريه الموت بعد الحياة ، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء . و { ٱلْقَيُّومُ } أى الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم ، والمعطى لهم ما به قوامهم . وهو مبالغة فى القيام . وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره . والمعنى الله - عز وجل - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التى لا يشاركه فيها سواه ، وهو المعبود بحق وكل معبود سواه فهو باطل ، وهو ذو الحياة الكاملة ، وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم . والجملة الثالثة قوله - تعالى - { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وهى جملة سلبية مؤكدة للوصف الإِيجابى السابق ، فإن قيامه على كل نفس ما كسبت ، وعلى تدبير شئون خلقه يقتضى ألا تعرض له غفلة ، ولأن السنة والنوم من صفات الحوادث وهو - سبحانه - مخالف لها . والسنة الفتور الذى يكون فى أول النوم مع بقاء الشعور والإِدراك . ويقال له غفوة . يقال وسن الرجل يوسن وسناً وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه - سبحانه - لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبداً ، ولا يحجب علمه شىء حجياً قصيراً أو طويلا ، ولا يدركه ما يدرك الأجسام من الفتور أو النعاس ، أو النوم . وتقديم السنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفى السنة يدل على نفى النوم بالأولى ، فنفيه ثانياً صريحاً يفيد المبالغة لأن عطف الخاص على العام يفيد المبالغة ولأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أى لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم . وفى قوله { لاَ تَأْخُذُهُ } دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذاً وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهراً ، ولكنه - سبحانه - وهو القاهر فوق عباده - منزه عن ذلك ، ومبرأ من أن يعتريه ما يعترى الحوادث . وقوله - سبحانه - فى الجملة الرابعة { لَّهُ مَا فى ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فى ٱلأَرْضِ } تقرير لانفراده بالألوهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لا تصافه بالقيومية ، لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قائما بتدبير أمرها . والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم . فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما فى هذا الوجود من شمس وقمر وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك من المخلوقات . وصدرت الجملة بالجار والمجرور " له " لإِفادة القصر أى ملك السماوات والأرض له وحده ليس لأحد سواه شىء معه . والاستفهام فى قوله فى الجملة الخامسة { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } للنفى والإِنكار أى لا أحد يستطيع أن يشفع عنده - سبحانه - إلا بإذنه ورضاه قال - تعالى - { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فى ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } والمقصود من هذه الجملة - كما يقول الآلوسى - بيان كبرياء شأنه - تعالى - وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عناداً أو مناصبة وعداوة . وفى ذلك تيئيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله " . وقوله - سبحانه فى الجملة السادسة { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } تأكيد لكمال سلطانه فى هذا الوجود ، وبيان لشمول علمه على كل شىء . والضمير فى أيديهم وخلفهم يعود إلى ما فى قوله قبل ذلك { لَّهُ مَا فى ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فى ٱلأَرْضِ } وعبر بضمير الذكور والعقلاء ، تغليباً لجانبهم على جانب غير العقلاء . والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه - سبحانه بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يعرفونه من شئونهم الدنيوية وما لا يعرفونه . وقوله - تعالى - فى الجملة السابعة { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } معطوف على قوله { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } لأنه مكمل لمعناه . والمراد بالعلم المعلوم . والإِحاطة بالشىء معناهها العلم الكامل به . أى لا يعلمون شيئاً من معلوماته - سبحانه - إلا بالقدر الذى أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله . فهو كقوله - تعالى - { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً . إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } فالجملة الكريمة بيان لكمال علم الله - تعالى - ، ولنقصان علم سواه ، إذ أن البشر لم يعظوا من العلم إلا القليل ، وهذا القليل ناقص لأنه ليس على إحاطة واستغراق لكل ما تشتمل عليه جزئيات الشىء ووجوده وجنسه وكيفيته وغرضه المقصود به وبإيجاده ، إذ العلم الكامل بالشىء لا يكون إلا الله رب العالمين . ثم قال - تعالى - فى الجملة الثامنة { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } . قال الراغب الكرسى فى تعارف العامة اسم للشىء الذى يقعد عليه ، وهو فى الأصل منسوب إلى الكرسى أى الشىء المجتمع ، ومنه الكراسة لأنها تجمع العلم … وكل مجتمع من الشىء كرس " . وللعلماء اتجاهان مشهوران فى تفسير معنى الكرسى فى الجملة الكريمة . فالسلف يقولون إن لله - تعالى - كرسيا علينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا نعرف حقيقته ، لأن ذلك ليس فى مقدور البشر . والخلف يقولون الكرسى فى الآية كناية عن عظم السلطان ، ونفوذ القدرة ، وسعة العلم ، وكمال الإِحاطة . ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء فى ذلك ، فقد قال - رحمه الله - وفى قوله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه أحدها أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كرسى ثمة ولا قعود ولا قاعد . والثانى وسع علمه ، وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذى هو كرسى العالم . والثالث وسع ملكه تسمية بمكانه الذى هو كرسى الملك . والرابع ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدى العرش دونه السماوات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شىء . وعن الحسن الكرسى هو العرش . هذا وقد روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال " كرسيه علمه " ولعل تفسير الكرسى بالعلم كما قال حبر الأمة هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالصفتين التاسعة والعاشرة فقال - تعالى - { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } . { يَؤُودُهُ } معناه يثقله ويشق عليه . يقال آدنى الأمر بمعنى أثقلنى وتحملت منه المشقة . و { ٱلْعَلِيُّ } هو المتعالى عن الأشياء ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث . وقيل هو من العلو الذى هو بمعنى القدرة وعلو الشأن . والمعنى ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض ورعايتهما ، وهو المتعالى عن الأشباه والنظائر ، والمسيطر على خلقه ، العظيم فى ذاته وصفاته ، ففى هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته ، وعظيم رعايته لخلقه ، وتنزيهه - سبحانه - عن مشابهة الحوادث . وبعد ، فهذه آية الكرسى التى اشتملت على عشر جمل ، كل جملة منها تشتمل على وصف أو أكثر من صفات الله الجليلة ، ونعوته المجيدة ، وألوهيته الحقه ، وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شىء ، قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله - تعالى - وجوب إفراده بالعباده . وقد تكلم العلماء طويلا عن تناسق جملها ، وبلاغه تراكيبها ووجوه فضلها ومن ذلك قول صاحب الكشاف " فإن قلت لم فضلت هذه الآية على غيرها حتى ورد فى فضلها ما ورد ؟ قلت لما فضلت له سورة الإِخلاص من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار " . ومن الأحاديث التى ساقها الإِمام ابن كثير فى فضلها ما جاء عن أبى بن كعب أن النبى صلى الله عليه وسلم سأله " أى آية فى كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم . فرددها مرارا ثم قال آية الكرسى . فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر " . وأخرج الإِمام مسلم فى صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن أعظم آية فى القرآن هى آية الكرسى " . وروى أن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - خرج ذات يوم على الناس فقال أيكم يخبرنى بأعظم آية ؟ فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أعظم آية فى القرآن { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } " . الآية . وبعد أن ساق - سبحانه - فى آية الكرسى الأدلة الواضحة على وحدانيته وعظمته وتنزيهه عن صفات الحوادث ، عقب ذلك ببيان أن الدين الحق قد ظهر وتجلى لكل ذى عقل سليم ، وأنه لا يقسر أحد على الدخول فيه فقال - تعالى - { لاَ إِكْرَاهَ فى ٱلدِّينِ … } .