Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 258-258)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ حَآجَّ } أى جادل وخاصم والمحاجة المخاصمة والمغالبة بالقول يقال حاججته فحججته أى خاصمته بالقول فتغلبت عليه وتستعمل المحاجة كثيراً فى المخاصمة بالباطل ومن ذلك قوله - تعالى - { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } وقوله - تعالى - { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } والمعنى لقد علمت أيها العاقل صفة ذلك الكافر المغرور الذى جادل إبراهيم - عليه السلام - فى شأن خالقه عز وجل - ومن لم يعلم قصته فها نحن أولاء نخبره عن طريق هذا الكتاب العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به - كما قال ابن كثير - نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل ، وكان معاصراً لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - . وأطلق القرآن على ما دار بين هذا الملك المغرور بين سيدنا إبراهيم أنها حاجة مع أنها مجادلة بالباطل من هذا الملك ، أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هى محاجة فى نظره السقيم ورأيه الباطل . والضمير فى قوله { فِي رَبِّهِ } يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - وقيل يعود إلى نمرود لأنه هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه والإِضافة - على الرأى الأول - للتشريف ، وللإِيذان من أول الأمر بأن الله - تعالى - مؤيد وناصر لعبده إبراهيم . وقوله { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } بيان لسبب إقدام هذا الملك على ما أقدم عليه من ضلال وطغيان . أى سبب هذه المحاجة لأنه أعطاه الله - تعالى - الملك فبطر وتكبر ولم يشكره - سبحانه - على هذه النعمة ، بل استعملها فى غير ما خلقت له فقوله { أَنْ آتَاهُ } مفعول لأجله ، والكلام على تقدير حذف لام الجر ، وهو مطرد الحذف مع أن وأن . وقوله { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذلك الملك فى مقام التدليل على وحدانية الله وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة أى قال له ربى وحده هو الذى ينشئ الحياة ويوجدها ، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها ، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك . وقول إبراهيم - كما حكاه القرآن - { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو { رَبِّيَ } والخبر هو الموصول وصلته . وعبر بالمضارع فى قوله { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } لإِفادة معنى التجدد والحدوث الذى يرى ويحس بين وقت وآخر . أى ربى هو الذى يحيى الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهداً فى كثير من الأوقات ، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال . وقوله { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } ظرف لقوله { حَآجَّ } أو بدل اشتمال منه ، وفى هذا القول الذى حكاه القرآن عن إبراهيم - عليه السلام - أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة ، لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذى يملك الإِحياء والإِماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر . قال الإِمام الرازى ما ملخصه والظاهر أن قول إبراهيم { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } جواب لسؤال سابق غير مذكور . وذلك أنه من المعلوم أن الأنبياء بعثوا للدعوة إلى الله ، ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلهاً . فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمرود من ربك ؟ فقال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها ، ودليل إبراهيم فى غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإِحياء والإِماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا . لأن من شأن الدليل أن يكون فى غاية الوضوح والقوة ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة ها هنا فى الذكر " . م حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال { قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } أى قال ذلك الطاغية إذا كنت يا إبراهيم تدعى أن ربك وحده الذى يحيى ويميت فأنا أعارضك فى ذلك لأنى أنا - أيضاً أحيى وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية . قالوا ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله ، ويقتل من شاء أن يقتله . ولقد كان فى استطاعة إبراهيم - عليه السلام - أن يبطل قوله ، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الاحياء والإِماتة المقصودين بالاحتجاج ، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت ، كان فى استطاعة الخليل - عليه السلام - أن يفعل ذلك ، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة ، وأتاه بحجة هى غاية فى الإِفحام فقال له - كما حكى القرآن { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } . أى قال إبراهيم لخصمه المغرور لقد زعمت أنك تملك الإِحياء والإِماتة كما يملك الله - تعالى - ذلك ، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركاً لله - تعالى - فى قدرته فإن كان ذلك صحيحاً فأنت ترى وغيرك يرى أن الله - تعالى - يأتى بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأت بها أنت من جهة المغرب فى هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التى قذفها إبراهيم - عليه السلام - فى وجه خصمه ؟ كانت نتيجتها - كما حكى القرآن - { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } أى غلبت وقهر ، وتحير وانقطع عن حجاجه ، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم ، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه . وبهت فعل ماض جاء على صورة الفعل المبنى للمجهول - كزهى وزكم - والمعنى فيه على البناء للفاعل . وقوله { ٱلَّذِي كَفَرَ } هو فاعله . والبهت الانقطاع والحيرة ، وقرئ بوزن - علم ونصر وكرم . والفاء فى قوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ } … إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب لشرط مقدر أى إن كنت كما تزعم أنك تحيى وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله - تعالى - يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . وعبر عن هذا البهوت بقوله { ٱلَّذِي كَفَرَ } للإِشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أى لا يهديهم إلى طريق الحق . ولا يلهمهم حجة ولا برهاناً . بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن . وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لوناً من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكى يكون فى ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون . ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله - تعالى - وعلى صحة البعث والنشور استمع إلى القرآن وهو يحكى هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ … وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .