Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 84-86)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن بين - سبحانه - فى الآية السابقة أن الله - تعالى - قد أخذ على بنى إسرائيل عهداً بأن يعبدوه ويؤدوا فرائض الله ، إلا أنهم نقضوا هذا العهد وتولوا عنه سوى قليل منهم بعد ذلك بين فى هذه الآيات الكريمة أنه - سبحانه - أخذ عليهم عهداً آخر ولكنهم نقضوه كما هو دأبهم . وملخص هذا العهد الذى ذكرته الآيات الكريمة ، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضاً ، وألا يخرج بعضهم بعضاً من داره ، وأنهم إذا وجدوا أسيراً منهم فى يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر ، وتخليصه من أيدى أعدائهم ، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتى الأوس والخزرج ، انضمت قبيلة بنى قريظة إلى الأوس ، وانضمت قبيلة بنى قينقاع وبنى النضير إلى الخزرج ، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفائهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها ، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم - تعالى - وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى ، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم ، ويحكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم ؟ فكان اليهود يقولون قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحى أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدى أسرانا . وقد توعدهم - سبحانه - بالخزى فى الدنيا والآخرة ، جزاء نقضهم لعهوده ، وتفريقهم بين أحكامه . والمعنى الإِجمالى للآيات الكريمة واذكروا - أيضاً - يا بنى إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد ، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل ، وبألا يخرج بعضكم بعضاً من مساكنهم ، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد ، والالتزام بما جاء فيه ، ثم أنتم هؤلاء - يا معشر اليهود - بعد إقراركم بالميثاق ، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه ، خرجتم على تعاليم التوراة ، فنقضتم عهودكم ، وأراق بعضكم دماء بعض ، وأخرجتم إخوانكم فى الملة والدم من ديارهم ظلماً وعدواناً ، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم ، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم فى الأسر فاديتموهم ، فلم لم تتبعوا حكم التوراة فى النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها فى مفاداتهم ؟ وكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار ، ولا تستبيحون ترك الأسرى فى أيدى عدوهم ؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان فى الدنيا . والعذاب الدائم فى الأخرى ، وما الله بغافل عما تعملون . ولا شك أن أولئك اليهود الذين نقضوا عهودهم ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، قد باعوا دينهم بدنياهم ، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون . وقوله تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } معناه اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره ، وألا يخرجه من دياره . على حد قوله { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } أى فليسلم بعضكم على بعض . وفائدة هذا التعبير ، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين ، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قوياً وعميقاً ، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه ، وإخراجه له من داره إخراجاً لها . قال صاحب المنار وقد أورد - سبحانه - النهى عن سفك بعضهم دم بعض ، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم ، بعبارة تؤكد وحدة الأمة ، وتحدث فى النفس أثراً شريفاً ، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر ، ووجدان يتأثر فقال تعالى { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده ، وقال تعالى { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } على هذا النسق ، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم . وقوله تعالى { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به ، إذ المعنى . ثم اعترفتم بهذا الميثاق - أيها اليهود - ولم تنكروه ، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به ، فماذا كان موقفهم بعد هذا الاقرار والإِشهاد ؟ لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك بأنهم نقضوا عهودهم ، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه ، فقال تعالى { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ … } أى ثم أنتم - يا معشر اليهود - بعد اعترافكم بالميثاق ، والتزامكم به ، نقضتم عهودكم ، وارتكبتم فى حق إخوانكم ما نهيتم عنه ، من القتل والإِخراج ، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء ، ومن يحترم المواثيق . ولما كان قتل بعضهم لبعض ، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة ، بين - سبحانه - أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجازوة الحدود ، فقال تعالى { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } تظاهرون من التظاهر وهو التعاون ، وأصله من الظهر ، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر . والمعنى تتعاونون على قتل إخوانكم وإخراجهم من ديارهم مع من ليسوا من أقاربكم وليسوا من دينكم ، وأنتم مرتكبون ذلك الإِثم والعدوان . وقوله تعالى { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } بيان لتناقضهم وتفريقهم لأحكام الله تعالى . وأُسارى جمع أسير بمعنى مأسور ، وهو من يؤخذ على سبيل القهر فيشد بالإِسار وهو القد - بكسر القاف - ، والقد سير يقد من جلد غير مدبوغ . وتفادوهم تنقذوهم من الأسر بالفداء ، يقال فاداه وفداه أعطى فداءه فأنقذه . أى أنتم - يا معشر اليهود - إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون فى فكاكهم ، وتبذلون عرضاً لإِطلاقهم ، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى فى أيدى أعدائكم ، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة فى النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها فى مفاداتهم ؟ وصدرت الجملة الكريمة " وهو محرم عليكم إخراجهم " بضمير الشأن للاهتمام بها . والعناية بشأنها ، وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم ، وليس خافياً عليهم . وقوله تعالى { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله . والمعنى أفتتبعون أحكام كتابكم فى فداء الأسرى ، ولا تتبعونها فى نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم ؟ فالاستفهام للإِنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه - تعالى - بالإِيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر . وبعض الكتاب الذى آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى فى أيدى عدوهم ، وبعضه الذى كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإِخراج من الديار ، فالإِنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإِيمان . قال فضيلة المرحوم للشيخ محمد الخضر حسين " وإنما سمى - سبحانه - عصيانهم بالقتل والإِخراج من الديار كفراً لأن من عصى أمر الله - تعالى - بحكم عملى معتقداً أن الحكمة والصلاح فيما فعله ، بحيث يتعاطاه دون أن يكون فى قلبه أثر من التحرج ، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب . فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين ، وفى الآية الكريمة دليل واضح على أن الذى يؤمن ببعض ما تقرر فى الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه ، يدخل فى زمرة الكافرين لأن الإِيمان كل لا يتجزأ " . ثم بين - سبحانه - العقاب الدنيوى والأخروى الذى استحقه أولئك المفرقون لأحكمه فقال تعالى { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } . اسم الإِشارة ذلك مشار به إلى القتل والإِخراج من الديار ، اللذين نقضوا بهما عهد الله بغياً وكفراً والخزى فى الدنيا هو الهوان والمقت والعقوبة ومن مظاهره ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء بنى فينقاع والنضير عن ديارهم ، وقتل بنى قريظة وفتح خيبر ، وما لحقهم بعد ذلك من هوان وصغار ، وتلك سنة الله فى كل أمة لا تتمسك بدينها ولا تربط شئونها بأحكام شريعتها وآدابها . ولما كان البعض قد يتوهم أن خزيهم فى الدنيا قد يكون سبباً فى تخفيف العذاب عنهم فى الأخرى ، نفى - سبحانه - هذا التوهم ، وبين أنهم يوم القيامة سيصيرون إلى ما هو أشد منه . لأن الله - تعالى - ليس ساهياً عن أعمالهم حتى يترك مجازاتهم عليها . فالمراد من نفى الغفلة نفى ما يتسبب عنها من ترك المجازاة لهم على شرورهم . وفى ذلك دليل على أن الله - تعالى - يعاقب الحائدين عن طريقه المستقيم ، بعقوبات فى الدنيا ، وفى الآخرة ، جزاء طغيانهم ، وإصرارهم على السيئات . ثم أكد - سبحانه - هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } . والمعنى أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا . وبذلك تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود بنقضهم للعهد ، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض ، فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين . ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا … فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } .