Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 105-112)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والسائلون عن أحوال الجبال يوم القيامة كفار مكة ، روى أنهم قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستهزاء ، يا محمد إنك تدعى أن هذه الدنيا تفنى ، وأننا نبعث بعد الموت ، فأين تكون هذه الجبال ، فنزل قوله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } . وقيل السائلون هم المؤمنون على سبيل طلب المعرفة والفهم . وقوله { يَنسِفُهَا } من النسف بمعنى القلع . يقال نسفت الريح التراب نسفا - من باب ضرب - إذا اقتلعته وفرقته . أى ويسألك - أيها الرسول الكريم - بعض الناس عن أحوال الجبال يوم القيامة ، فقل لهم ينسفها ربى نسفا ، بأن يقلعها من أصولها ، ثم يجعلها كالرمل المتناثر ، أو كالصوف المنفوش الذى تفرقه الرياح . والفاء فى قوله { فَقُلْ } للمسارعة إلى إزالة ما فى ذهن السائل من توهم أن الجبال قد تبقى يوم القيامة . والضمير فى قوله { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } يعود إلى الجبال باعتبار أجزائها السفلى الباقية بعد النسف ، ويصح أن يعود إلى الرض المدلول عليها بقرينة الحال ، لأنها هى الباقية بعد قلع الجبال . والقاع هو المنكشف من الأرض دون أن يكون عليه نبات أو بناء . والصفصف الأرض المستوية الملساء حتى لكأن أجزاءها صف واحد من كل جهة . اى فيتركها بعد النسف أرضا منكشفة متساوية ملساء ، لا نبات فيها ولا بناء … { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } أى لا ترى فى الأرض بعد اقتلاع الجبال منها ، مكانا منخضا ، كما لا ترى فيها { أَمْتاً } أى مكانا مرتفعا ، بل تراها كلها مستوية ملساء كالصف الواحد . قال صاحب الكشاف فإن قلت قد فرقوا بين العِوج والعَوج ، فقالوا العِوج بالكسر فى المعانى والعوج بالفتح فى الأعيان ، والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟ . قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع فى وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت فى التسوية على عينك وعيون البصراء ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأى المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية ، لعثر فيها على عوج فى غير موضع ، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسى ، فنفى الله ذلك العوج الذى دق ولطف عن الإِدراك ، اللهم إلا بالقياس الذى يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعانى ، فقيل فيه ، عوج بالكسر والأمت النتوء اليسير ، يقال مد حبله حتى ما فيه أمت … ثم بين - سبحانه - أحوال الناس يوم القيامة فقال { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ . … } . والمراد بالداعى الملك الذى يدعوهم إلى المثول للحساب . قيل يناديهم بقوله أيتها العظام البالية ، والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة … قومى إلى ربك للحساب والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه . والمعنى فى هذا اليوم الذى تنسف فيه الجبال ، وتصير الأرض قاعا صفصفا يقوم الناس من قبورهم ، ويتبعون من يناديهم للحساب والجزاء دون أن يحيدوا عن هذا المنادى ، أو أن يملكوا مخالفته أو عصيانه ، بل الجميع يسمع دعاءه ويستجيب لأمره . كما قال - تعالى - { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } وقوله { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } أى وخفتت وسكنت الأصوات كلها هيبة وخوفا من الرحمن - عز وجل - فلا تسمع - أيها المخاطب - فى هذا اليوم الهائل الشديد { إِلاَّ هَمْساً } أى إلا صوتا خفيا خافتا . يقال همس الكلام يهمسه همسا ، إذا أخفاه ، ويقال للأسد الهموس ، لخفاء وطئه . { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أى فى هذا اليوم الذى تخشع فيه الأصوات لا تنفع الشفاعة أحدا كائنا من كان ، إلا شفاعة من أذن له الرحمن فى ذلك { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أى ورضى - سبحانه - قول الشافع فيمن يشفع له . قال الإِمام ابن كثير وهذه الآية كقوله - تعالى - { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وكقوله { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } وكقوله { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } وفى الصحيحين من غير وجه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " أتي تحت العرش ، وأخر لله ساجداً ، ويُفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقول - سبحانه - " يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع قولك ، واشفع تشفع . قال - صلى الله عليه وسلم - فيحد لى حدا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود ، فذكر أربع مرات " - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر الأنبياء … وفى الحديث يقول - تعالى - " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقول - سبحانه - أخرجوا من النار من كان فى قلبه نصف مثقال من إيمان ، أخرجوا من النار من كان فى قلبه ما يزن ذرة ، من كان فى قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان " . وقوله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } بيان لشمول علمه - سبحانه - لكل شىء . أى الله - تعالى - وحده هو الذى يعلم جميع أحوال خلقه سواء ما كان منها يتعلق بما بين أيديهم من أمور الآخرة وأهوال الموقف ، أم ما كان منها يتعلق بما خلفهم من أمور الدنيا ، أما هم فإنهم لا يحيط علمهم إلا بذاته - تعالى - ولا بصفاته ، ولا بمعلوماته . فالضمير فى قوله { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } يعود على المتبعين للداعى وهم الخلق جميعا … وقيل يعود للشافعين ، وقيل للملائكة ، والأول أولى لعمومه . وقوله - سبحانه - { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ … } مؤكد ومقرر لما قبله من خشوع الأصوات يوم القيامة للرحمن ، ومن عدم الشفاعة لأحد إلا بإذنه - عز وجل - . والفعل { وَعَنَتِ } بمعنى ذلت يقال عنَا فلان يعنو عُنوا - من باب سما - إذا ذل لغيره وخضع وخشع ، ومنه قيل للأسير عانٍ لذله وخضوعه لمن أسره . أى وذلت وجوه الناس وخضعت فى هذا اليوم لله - تعالى - وحده الحى أى الباقى الذى له الحياة الدائمة التى لا فناء معها { ٱلْقَيُّومِ } أى الدائم القيام بتدبير أمر خلقه وإحيائهم وإماتتهم ورزقهم … وسائر شئونهم . وهذا اللفظ مبالغة فى القيام . وأصله قيووم بوزن فيعول … من قام بالأمر . إذا حفظه ودبره . وخصت الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ، وآثار الذل أكثر ما تكون ظهورا عليها . وظاهر القرآن يفيد أن المراد بالوجوه جميعها ، سواء أكانت للمؤمنين أم لغيرهم ، فالكل يوم القيامة خاضع لله - تعالى - ومستسلم لقضائه ، فالألف واللام للاستغراق . قال ابن كثير قوله - تعالى - { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } قال ابن عباس وغير واحد - من السلف - خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لخالقها وجبارها الحى الذى لا يموت … ويرى بعضهم أن المراد بالوجوه التى ذلت وخشعت فى هذا اليوم ، وجوه الكفار والفاسقين ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال المراد بالوجوه وجوه العصاة ، وأنهم إذا عاينوا - يوم القيامة - الخيبة والشقوة وسوء الحساب وصارت وجوههم عانية ، أى ذليلة خاشعة ، مثل وجوه العناة وهم الأسارى ، ونحوه قوله - تعالى - { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ويبدو لنا أن القول الأول أقرب إلى الصواب ، لأن جميع الوجوه يوم القيامة تكون خاضعة لحكم الله - تعالى - ومستسلمة لقضائه . وقوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } جملة حالية ، أى ذلت جميع الوجوه لله - تعالى - يوم القيامة ، والحال أنه قد خاب وخسر من حمل فى دنياه ظلما ، أى شركا بالله - تعالى - أو فسوقا عن أمره - سبحانه - ولم يقدم العمل الصالح الذى ينفعه فى ذلك اليوم العسير . ثم بسر - سبحانه - المؤمنين بما يشرح صدورهم فقال { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } . أى ومن يعمل فى دنياه الأعمال الصالحات ، وهو مع ذلك مؤمن بكل ما يجب الإِيمان به . فإنه فى هذه الحالة { لاَ يَخَافُ ظُلْماً } ينزل به . ولا يخاف { هَضْماً } لشىء من حقوقه أو ثوابه . يقال هضم فلان حق غيره ، إذا انتقصه حقه ولم يوفه إياه . قالوا والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم قد يكون بمنع الحق كله ، أما الهضم فهو منع لبعض الحق . فكل هضم ظلم ، وليس كل ظلم هضما . فالآية الكريمة قد بشرت المؤمنين ، بأن الله - تعالى - بفضله وكرمه سيوفيهم أجورهم يوم القيامة ، بدون أدنى ظلم أو نقص من ثوابهم ، فالتنكير فى قوله { ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } للتقليل . ثم نوه - سبحانه - بشأن القرآن الكريم الذى أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض الحكم من إنزاله ، وطلب من نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله المزيد من العلم فقال - تعالى - { وَكَذٰلِكَ … } .