Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 61-70)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - تعالى - { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ … } حكاية لما وجهه موسى - عليه السلام - من نصح وإنذار . قيل كان عددهم اثنين وسبعين ، وقيل أكثر من ذلك . قال الجمل قوله { فَيُسْحِتَكُم } قرأ الأخوان وحفص عن عاصم فيسحتكم - بضم الياء وكسر الحاء - . وقرأ الباقون بفتحهما . فقراءة الأخوين من أسحت الرباعى ، وهى لغة نجد وتميم ، وقراءة الباقين من سحت الثلاثى - وبابه قطع - وهى لغة الحجازيين . وأصل هذه المادة . الدلالة على الاستقصاء ، والنفاد ، ومنه سحت الحالق الشعر ، أى استقصاء فلم يترك منه شيئا ، ويستعمل فى الإهلاك والإذهاب ، ونصبه بإضمار أن فى جواب النهى . أى قال موسى - عليه السلام - للسحرة الذين التقى بهم وجها لوجه بعد أن حشدهم فرعون أمامه ، فقال لهم الويل والهلاك لكم ، لا تفتروا على الله - تعالى - كذبا ، بأن تقفوا فى وجهى ، وتزعموا أن معجزاتى هى نوع من السحر . فإنكم لو فعلتم ذلك أهلككم الله - تعالى - وأبادكم بعذاب عظيم من عنده . وجملة { وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } معترضة لتقرير وتأكيد ما قبلها . أى وقد خاب وخسر كل من قال على الله - تعالى - قولا باطلا لا حقيقة له ، وفرعون أول المبطلين المفترين الخاسرين ، فاحذروا أن تسيروا فى ركابه ، أو أن تطيعوا له أمرا . ويبدو أن هذه النصيحة الصادقة المخلصة كان لها أثرها الطيب فى نفوس بعض السحرة ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } والنجوى المسارة فى الحديث . أى وبعد أن سمع السحرة من موسى نصيحته لهم وتهديده إياهم بالاستئصال والهلاك . إذا ما استمروا فى ضلالهم ، اختلفوا فيما بينهم ، { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } أى وبالغوا فى إخفاء ما يسارون به عن موسى وأخيه - عليهما السلام - . فمنهم من قال - كما روى عن قتادة - إن كان ما جاءنا به موسى سحرا فسنغلبه ، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر . ومنهم من قال بعد أن سمع كلام موسى ما هذا بقول ساحر . ومنهم من أخذ فى حض زملائه المترددين على منازلة موسى - عليه السلام - ، لأنه جاء هو وأخوه لتغيير عقائد الناس ولاكتساب الجاه والسلطان ، ولسلب المنافع التى تأتى لهم أى للسحرة عن طريق السحر … ويبدو أن هذا الفريق الأخير هو الذى استطاع أن ينتصر على غيره من السحرة فى النهاية ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } . فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون ، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم فى تجميع صفوفهم ، وفى تشجيع بعضهم لبعض ، حتى لا يستلب موسى - عليه السلام - منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم … أى قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجى والإسرار ، ما استقر عليه رأيهم ، من أن موسى وهارون ساحران { يُرِيدَانِ } عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر ليستوليا هما وأتباعهما عليهما . ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى . أى بمذهبكم ودينكم الذى هو أمثل المذاهب وأفضلها ، وبملككم الذى أنتم فيه ، وبعيشكم الذى تنعمون به . فالمثلى مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل . وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة . هذا ، وهناك قراءات فى قوله تعالى { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } ذكرها الإمام القرطبى . فقال ما ملخصه قوله - تعالى - { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو { إِنْ هَـٰذَينِ لَسَاحِرَانِ } ورويت - هذه القراءة - عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة … وقرأ الزهرى والخليل ابن أحمد وعاصم فى رواية حفص عنه { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتخفيف { إِنْ } … وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراف ، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران . وقرأ المدنيون والكوفيون { إِنَّ هَـٰذَانِ } بتشديد إن { لَسَاحِرَانِ } فوافقوا المصحف وخالفوا الإِعراب . فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة … والعلماء فى قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم … ، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف … وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية . والفاء فى قوله - تعالى { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ … } فصيحة ، أى إذا كان الأمر كذلك من أن موسى وهارون قد حضرا ليخرجاكم من أرضكم بسحرهما … { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أى فأحكموا سحركم واعزموا عليه ولا تجعلوه متفرقا . يقال أجمع فلان رأيه وأزمعه ، إذا عزم عليه وأحكمه واستعد لتنفيذه وقوله { ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً } أى ثم ائتوا جميعا مصطفين ، حتى يكون أمركم أكثر هيبة فى النفوس ، وأعظم وقعا على القلوب ، وأدعى إلى الترابط والثبات وقوله { وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } تذييل مؤكد لما قبله . أى وقد أفلح وفاز بالمطلوب فى يوم النزال من طلب العلو ، وسعى من أجله ، واستطاع أن يتغلب على خصمه ، لأننا إذا تغلبنا على موسى كانت لنا الجوائز العظمى ، وإذا تغلب علينا خسرنا خسارة ليس هناك ما هو أشد منها . وحانت ساعة المبارزة والمنازلة . فتقدم السحرة نحو موسى - عليه السلام - وقالوا له - كما حكى القرآن عنهم - { … يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } . والإلقاء فى الأصل طرح الشىء ، ومفعول " تلقى " محذوف للعلم به ، والمراد به العصا . أى قال السحرة لموسى على سبيل التخيير الذى يبدو فيه التحدى والتلويح بالقوة يا موسى إما أن تلقى أنت عصاك قبلنا ، وإما أن تتركنا لنلقى حبالنا وعصينا قبلك . قال الآلوسى خيروه - عليه السلام - وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم . وقيل . مراعاة للأدب معه - عليه السلام - . و " أن " مع ما فى حيزها منصوب بفعل مضمر . أى ، إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى . أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى " الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى … " . ثم حكى القرآن بعد ذلك أن موسى - عليه السلام - ترك فرصة البدء لهم ، واستبقى لنفسه الجولة الأخيرة ، فقال - تعالى - { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } . والتخيل هو إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال ، وهو الطيف الطارق فى النوم . أى قال موسى - عليه السلام - للسحرة فى الرد على تخييرهم له ، ابدأوا أنتم بإلقاء ما معكم من حبال وعصى . والفاء فى قوله { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ … } فصيحة وهى معطوفة على كلام محذوف ، وإذا هى الفجائية . أى قال لهم موسى بل ألقوا أنتم أولا ، فامتثلوا أمره وألقوا ما معهم ، فإذا حبالهم وعصيهم التى طرحوها ، جعلت موسى - لشدة اهتزازها واضطرابها - يخيل إليه من شدة سحرهم ، أن هذه الحبال والعصى حيات تسعى على بطونها . قال ابن كثير وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد ، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كانت حيلة ، وكانوا جمًّا غفيرا ، وجمعا كبيرا - أى السحرة - فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادى ملآن حيات ، يركب بعضها بعضا … ويبدو أن فعل السحرة هذا ، قد أثر فى موسى - عليه السلام - بدليل قوله - تعالى - { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } . والإِيجاس الإِخفاء والإِضمار ، والخيفة الخوف . أى فأخفى موسى - عليه السلام - فى نفسه شيئا من الخوف ، حين رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى على بطونها ، وخوفه هذا حدث له بمقتضى الطبيعة البشرية عندما رأى هذا الأمر الهائل من السحر ، وبمقتضى أن يؤثر هذا السحر فى نفوس الناس فيصرفهم عما سيفعله . وهنا ثبته الله - تعالى - وقواه ، وأوحى إليه - سبحانه - بقوله { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } . أى قلنا له عندما أوجس فى نفسه خيفة من فعل السحرة لا تخف يا موسى مما فعلوه ، إنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة والظفر . أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل . وقد أكد الله - تعالى - هذه البشارة لموسى بجملة من المؤكدات أحدها إن المؤكدة ، وثانيها تكرير الضمير وثالثها التعبير بالعلو المفيد للاستعلاء عليهم . وقوله - سبحانه - { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ … } زيادة فى تشجيعه وتثبيته . وتلقف من اللقف بمعنى الأخذ للشىء بسرعة وخفى ، يقال لقف فلان يلقَفُه لقْفا ولقَفَاناً ، إذا تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم . وفى هذه الكلمات ثلاث قراءات سبعية ، أحدها " تَلَقَّفْ " بتاء مفتوحة مخففة ، بعدها لام مفتوحة ، ثم قاف مشددة وفاء ساكنة ، وأصل الفعل تلقف ، فحذفت إحداهما تخفيفا ، وهو مجزوم فى جواب الأمر وهو { وَأَلْقِ } . وثانيها { تَلَقَّفُ } كالقراءة السابقة مع ضم الفاء ، على أن الفعل خبر لمبتدأ محذوف . أى وألق ما فى يمينك فهى تلقف ما صنعوا . وثالثها { تَلْقَفْ } بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف المخففة وجزم الفعل كالقراءة الأولى . والمراد بما في يمينه عصاه ، كما جاء ذلك صريحا فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } وعبر عنها بقوله { مَا فِي يَمِينِكَ } على سبيل التهويل من شأنها ، أو لتذكيره بما شاهده منها بعد أن قال الله - تعالى - له قبل ذلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ … قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ … } والمعنى وألق يا موسى ما فى يمينك تبتلع كل ما صنعه السحرة من تمويه وتزوير وتخييل ، جعل الناس يتوهمون أن حبالهم وعصيهم تسعى . قال ابن كثير وذلك أنها صارت تنينا هائلا - أى حية عظيمة - ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصى حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتعلته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهارا نهارا … فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون . وقوله { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } تعليل لقوله { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ } و { مَا } موصولة وهى اسم إن ، و { كَيْدُ } خبرها ، والعائد محذوف . والتقدير وألق يا موسى عصاك تلقف ما صنعوه ، فإن الذى صنعوه إنما هو كيد من جنس كيد السحرة وصنعهم وتمويههم . { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ } أى ولا يفوز هذا الجنس من الناس { حَيْثُ أَتَىٰ } أى حيث كان فحيث ظرف مكان أريد به التعميم . أى أن الساحر لا يفلح ولا يفوز أينما كان ، وحيثما أقبل ، وأنَّى اتجه ، لأنه يصنع للناس التخييل والتمويه والتزوير والتزييف للحقائق . قال صاحب الكشاف " فإن قلت لم وحد ساحر ولم يجمع ؟ قلت لأن القصد فى هذا الكلام إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد . ثم كانت بعد ذلك المفاجأة الكبرى فقد آمن السحرة حين رأوا ما رأوا بعد أن ألقى موسى ما فى يمينه ، قال - تعالى - { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } . قال الآلوسى " والفاء فى قوله { فَأُلْقِيَ … } فصيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح " . أى فزال الخوف ، وألقى موسى ما في يمينه ، وصارت حية ، وتلقفت حبالهم وعصيهم ، وعلم السحرة أن ذلك معجزة ، فخروا سجدا لله على وجوههم قائلين آمنا برب هارون وموسى . … والحق أن التعبير بقوله - تعالى - { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً … } يدل على قوة البرهان الذى عاينوه ، حتى لكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التى عاينوها ، وأطلق - سبحانه - عليهم اسم السحرة فى حال سجودهم له - تعالى - وإيمانهم به ، نظرا إلى حالهم الماضية . وهكذا النفوس النقية عندما يتبين لها الحق ، لا تلبث أن تفىء إليه ، وتستجيب لأهله . قال الكرخى خروا ساجدين لله لأنهم كانوا فى أعلى طبقات السحر ، فلما رأوا ما فعله موسى خارجا عن صناعتهم ، عرفوا أنه ليس من السحر البتة . وقال صاحب الكشاف " ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود . ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود . فما أعظم الفرق بين الإلقاءين " . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما توعد فرعون به السحرة ، وموقفهم من هذا الوعيد فقال - تعالى - { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ … } .