Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 10-15)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الآلوسى " قوله - تعالى - { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً … } كلام مستأنف لتحقيق حقية القرآن العظيم ، الذى ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، واستهزاؤهم به ، واضطرابهم فى أمره ، وبيان علو مرتبته ، إثر تحقيق رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، ببيان أنه كسائر الرسل الكرام ، وقد صدر الكلام بالتوكيد القسمى ، إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا ، بأن المخاطبين فى أقصى مراتب النكير ، والخطاب لقريش ، وجوز أن يكون لجميع العرب . " . والمعنى لقد أنزلنا إليكم ما معشر العرب عن طريق رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كتابا عظيم الشأن ، نير البرهان ، مشتملا على ما يسعدكم ، وهذا الكتاب { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أى فيه شرفكم ، وعلو منزلتكم ، وحسن موعظتكم ، وشفاء صدوركم . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ذلك ، مع أن هذا الأمر واضح ، ولا يحتاج إلى جدال أو مناقشة . فالاستفهام لإِنكار عدم تدبرهم فى شأن هذا الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - ليظفروا بسببه بالذكر الجميل ، وبالموعظة الحسنة ، كما قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وإن من مظاهر كون القرآن الكريم فيه ذكر العرب وشرفهم ، أنه نزل بلغتهم ، وأنه المعجزة الباقية الخالدة بخلاف غيره من المعجزات التى أيد الله - تعالى - بها الرسل السابقين ، وأنه الكتاب الذى قادوا به البشرية قرونا طويلة . عندما حملوه إلى الناس ، فقرأوه عليهم ، وشرحوا لهم أحكامه وآدابه وتشريعاته … وما أصيب العرب فى دينهم ودنياهم إلا يوم أن تخلوا عن العمل بهدايات هذا الكتاب ، وقصروا فى تبليغه إلى الناس . ثم بين - سبحانه - ما أنزله بالقوم الظالمين فقال { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } . و " كم " هنا خبرية مفيدة للتكثير ، وهى فى محل نصب على أنها مفعول مقدم " لقصمنا " . وأصل القصم كسر الشىء حتى ينقطع وينفصل عن غيره ، يقال قصم فلان ظهر فلان ، إذا كسره حتى النهاية ، بخلاف الفصم فهو صدع الشىء من غير قطع وانفصال . قال القرطبى " والقصم الكسر ، يقال قصمت ظهر فلان ، وانقصمت سنه ، إذا انكسرت . والمعنى ها هنا به الإهلاك . وأما الفصم - بالفاء - فهو الصدع فى الشىء من غير بينونة " . أى وكثيرا من القرى الظالمة التى تجاوز أهلها حدود الحق ، ومردوا على الكفر والضلال ، أبدناها مع أهلها ، وعذبناها عذابا نكرا ، بسبب ظلمهم وبغيهم ، وأنشأنا من بعدهم قوما آخرين ليسوا مثلهم . وأوقع - سبحانه - فعل القصم على القرى ، للإِشعار بأن الهلاك قد أصابها وأصاب أهلها معها . فالكل قد دمره - سبحانه - تدميراً . أما عند الإِنشاء فقد أوقع الفعل على القوم فقال { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } للإِيماء إلى أن هؤلاء القوم الآخرين ، الذين لم يكونوا أمثال السابقين ، هم الذين ينشئون القرى ويعمرونها . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } ثم صور - سبحانه - حال هؤلاء الظالمين عندما أحسوا بالعذاب وهو نازل بهم فقال { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } . وقوله { أَحَسُّواْ } من الإِحساس . وهو إدراك الشىء بالحاسة . يقال أحس فلان الشى ، إذا علمه بالحس ، وأحس بالشىء ، إذا شعر به بحاسته . وقوله { يَرْكُضُونَ } من الركض وهو السير السريع ، وأصله أن يضرب الرجل دابته برجله ليحثها على الجرى والسرعة فى المشى . والمقصود به هنا الهرب بسرعة . أى فلما أحس هؤلاء الظالمون عذابنا المدمر ، وأيقنوا نزوله بهم ، وعلموا ذلك علما مؤكدا ، إذا هم يخرجون من قريتهم { يَرْكُضُونَ } أى يهربون بسرعة وذعر ، حتى لكأنهم من اضطرابهم وخوفهم يظنون أن ذلك سينجيهم . وإذا هنا فجائية ، والجملة بعدها جواب " لما " . وقوله - سبحانه - { لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ } حكاية لما تقوله لهم الملائكة - وهم يركضون هربا - على سبيل التهكم والاستهزاء . أى يقال لهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين لا تركضوا هاربين { وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ } قريتكم وإلى { مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } أى وإلى ما نعمتم فيه من العيش الهنىء ، والخير الوفير ، الذى أبطركم وجعلكم تجحدون النعم ، ولم تستعملوها فيما خلقت له . فقوله { أُتْرِفْتُمْ } من الترفه - بالتاء المشددة مع الضم - وهى النعمة والطعام الطيب . يقال ترف فلان - كفرح - إذا تنعم . وفلان أترفته النعمة ، إذا أطغته أو نعمته . وقوله { وَمَسَاكِنِكُمْ } معطوف على { مَآ } . أى لا تهربوا وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الهنىء ، وإلى مساكنكم التى كنتم تسكنونها ، وتتفاخرون بها . { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أى يقصدكم غيركم لسؤالكم عما نزل بكم ، فتجيبوا عن علم ومشاهدة . قال صاحب الكشاف " قوله { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } تهكم بهم وتوبيخ ، أى ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم . فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة . أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم فى مجالسكم ، وترتبوا فى مراتبكم حتى يسألكم حشمكم وعبيدكم ، ومن تملكون أمره . وينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقول لكم بم تأمرون ؟ وبماذا ترسمون ؟ وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدَّمين . أو يسألكم الناس فى أنديتكم … ويستشيرونكم فى المهمات . ويستضيئون بآرائكم . أو يسألكم الوافدون عليكم ، ويستمطرون سحائب أكفكم … قيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم ، وتوبيخا إلى توبيخ " . وهنا أدرك هؤلاء الظالمون ، أن الأمر جد لا هزل ، وأن العذاب نازل بهم لا محالة ، وأن القائلين لهم لا تركضوا ، إنما يتهكمون بهم . فأخذ أولئك الضالمون يتفجعون ويتحسرون قائلين { يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . والويل الفضيحة والبلية والمصيبة التى يعقبها الهلاك . وهى كلمة جزع وتحسر . وتستعمل عندما تحيط بالإِنسان داهية عظيمة ، وكأن المتحسر لنزول مصيبة به ، ينادى ويليته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من يُنَادَى . أى قالوا عندما تيقنوا أن الهلاك نازل بهم يا هلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين للعذاب . بسبب إعراضنا عن الحق ، وتكذيبنا لمن جاء به . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { مَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } يعود إلى الكلمات التى قالوها على سبيل التحسر عندما يئسوا من الخلاص والهرب ، وتأكدوا من الهلاك ، وهى قولهم { يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . أى فما زالوا يرددون تلك الكلمات بتفجع وتحسر واستعطاف . وسميت هذه الكلمات دعوى ، لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلا أيها الويل هذا أوانك فأقبل نحوى . وقوله { حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } بيان لما آل إليه حالهم . وخامدين من الخمود بمعنى الهمود والانطفاء والانتهاء . يقال خمدت النار تخمد خمدا وخمودا ، إذا سكن لهيبها ، وانطفأ شررها . أى فما زالت تلك كلماتهم حتى جعلناهم فى الهمود والهلاك كالنبات المحصود بالمناجل ، وكالنار الخامدة بعد اشتعالها . وهكذا تكون عاقبة الظالمين . وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على قدرته ووحدانيته ، وعلى أن من فى السماوات والأرض لا يستكبرون عن عبادته - تعالى - ، فقال - عز وجل - { وَمَا خَلَقْنَا … } .