Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 42-47)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { يَكْلَؤُكُم } أى يرعاكم ويحفظكم . يقال فلان كَلأَ فلانا كَلأً وكِلاءَة - بالكسر - إذا حرسه ، واكتلأ فلان من غيره ، إذا احترس منه . والاستفهام للإِنكار والتقريع . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المستهزئين بك وبما جئت به من عند ربك قل لهم من الذى يحرسكم ويحفظكم " بالليل " وأنتم نائمون " والنهار " وأنتم متيقظون " من الرحمن " أى من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن يهلككم بسبب عكوفكم على كفركم وشرككم . وتقديم الليل على النهار ، لما أن الدواهى فيه أكثر ، والأخذ فيه أشد ، واختار - سبحانه - لفظ الرحمن ، للإشعار بأنهم يعيشون فى خيره ورحمته . ومع ذلك لا يشكرونه - تعالى - على نعمه . ولذا - أخبر - سبحانه - عنهم بقوله { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أى بل هم بعد كل هذا الإِنكار عليهم ، والتنبيه لهم عن ذكر ربهم وكتابه الذى أنزله لهدايتهم ، معرضون شاردون ، لا يحاولون الانتفاع بتوجيهاته ، ولا يستمعون إلى إرشاداته . فالجملة الكريمة تنفى عنهم الانتفاع بما يوجهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم من هدايات وعظات . ثم وجه - سبحانه - إليهم سؤالا آخر فقال { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا … } ؟ . و { أَمْ } هنا هى المنقطعة التى بمعنى بل والهمزة ، فهى مشتملة على معنى الإِضراب والإِنكار . والمعنى وسلهم - أيها الرسول الكريم - مرة أخرى ألهؤلاء الجاحدين آلهة أخرى تستطيع أن تحرسهم وترعاهم سوانا نحن ؟ كلا لبس لهم ذلك . فالجملة الكريمة إضراب عن وصفهم بالإِعراض إلى توبيخهم على جهالاتهم بسبب اعتمادهم على آلهة لا تنفع ولا تضر . وقوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } نفى على أبلغ وجه لأن تكون هناك آلهة ترعاهم سوى الله - تعالى - أى كلا … ليس لهم آلهة تمنعهم من عذابنا إن أردنا إنزاله بهم ، فإن هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصر غيرهم ، ولا هم منا يصحبون ، أى يجارون ويمنعون من نزول الضر بهم . قال ابن جرير " وقوله { يُصْحَبُونَ } بمعنى يجارون ، تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان . بمعنى أجيرك وأمنعك منه . وهؤلاء إذا لم يصبحوا بالجوار ، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله ، مع سخط الله عليهم ، فلم يصحبوا بخير ولن ينصروا . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله عليهم لم يحسنوا شكرها ، فقال - تعالى - { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ … } . أى لا تلتفت - أيها الرسول الكريم - إلى هؤلاء المشركين الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، والذين زعموا أن آلهتهم تضر أو تنفع ، فإننا قد كلأناهم برعايتنا بالليل والنهار ، ومتعناهم وآباءهم من قبلهم بالكثير من متع الحياة الدنيا ، حتى طالت أعمارهم فى رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان والبطر والإِصرار على الكفر . وسنأخذهم فى الوقت الذى نريده أخذ عزيز مقتدر ، فإن ما أعطيناه لهم من نعم إنما هو على سبيل الاستدراج لهم . ثم يلفت - سبحانه - أنظارهم إلى الواقع المشاهد فى هذه الحياة فيقول { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } . وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها أن المراد بنقص الأرض من أطرافها إهلاك المشركين السابقين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وهم يمرون على قرى بعض هؤلاء المكذبين ، ويرون آثارهم وقد دمرت ديارهم . والمعنى أفلا ينظرون هؤلاء المشركون الذين كذبوك يا محمد ، فيرون بأعينهم ما حل بأمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلك . وكيف أننا طوينا الأرض بهم . وجعلناهم أثرا بعد عين . والاستفهام فى قوله { أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } للإِنكار . أى لم تكن الغلبة والعاقبة في يوم من الأيام لمن كذبوا رسل الله - تعالى - وإنما الغلبة والظفر وحسن العاقبة لمن آمن بالرسل وصدقهم واتبع ما جاءوا به من عند ربهم . وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى بقوله " أفلا يعتبرون نصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين . ولهذا قال { أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } . يعنى بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون . ومنها أن المراد بنقص الأرض من أطرافها نقص أرض الكفر ودار الحرب ، وتسليط المسلمين عليها وانتزاعها من أيديهم بدليل الاستفهام الإِنكارى فى قوله { أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } أى لا … ليسوا هم الذين يغلبون جندنا ، وإنما جندنا هم الغالبون . وقد صدر الآلوسى تفسيره لهذا القول فقال " أفلا يرون أنا تأتى الأرض " أى أرض الكفرة " ننقصها من أطرافها " بتسليط المسلمين عليها ، وحوز ما يحوزونه منها ، ونظمه فى سلك ملكهم … " أفهم الغالبون " على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين . والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها ، كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم ، وفى التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها . وقال صاحب الكشاف " فإن قلت أى فائدة فى قوله { نَأْتِي ٱلأَرْضَ } ؟ . قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها . وهذان الرأيان مع وجاهتهما ، إلا أن الرأى الأول الذى ذهب إليه ابن كثير أكثر شمولا ، لأنه يتناول ما أصاب المكذبين للرسل السابقين من عقاب كما يشمل التهديد للمكذبين المعاصرين للعهد النبوى ، بأنهم إذا استمروا فى طغيانهم فسيحل بهم ما حل بمن سبقوهم . وهناك من يرى أن المراد بنقص الرض من أطرافها موت العلماء ، أو خرابها عند موت أهلها ، أو نقص الأنفس والثمرات … ولكن هذه الآراء ليس معها ما يرجحها . ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوجه إلى هؤلاء المشركين إنذاراً حاسما ، فقال - تعالى - { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ … } . أى قل يا محمد لهؤلاء المشركين إنى بعد أن بينت لكم ما بينت من هدايات وإرشادات أنذركم عن طريق الوحى الصادق ، بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، فلا تستعجلوا ذلك فكل آت قريب ، وسترون فيها ما ترون من أهوال وعذاب . وقوله { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } توبيخ لهم وتجهيل . أى ولا يسمع الصم دعاء من يدعوهم إلى ما ينفعهم ، ولا يلتفتون إلى إنذار من ينذرهم وذلك لكمال جهلهم ، وشدة عنادهم ، وانطماس بصائرهم . ثم بين - سبحانه - حالهم عندما ينزل بهم شىء من العذاب فقال { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . أى ولئن أصاب هؤلاء المشركين شىء قليل من عذاب ربك يا محمد . ليقولن على سبيل التفجع والتحسر وإظهار الخضوع يا ويلنا - أى يا هلاكنا - إنا كنا ظالمين ، ولذلك نزل بنا هذا العذاب ، وفى هذا التعبير ألوان من المبالغات منها ذكر المس الذى يكفى فى تحققه إيصال ما ، ومنها ما فى النفح من النزارة والقلة ، يقال نفح فلان فلانا نفحة ، إذا أعطاه شيئا قليلا ومنها . البناء الدال على المرة والواحدة كما يفيد ذلك التعبير بالنفحة . أى نفحة واحدة من عذاب ربك ، والمقصود من الآية الكريمة بيان سرعة تأثر هؤلاء المشركين ، بأقل شىء من العذاب الذى كانوا يستعجلونه ، وأنهم إذا ما نزل بهم شىء منه ، أصيبوا بالهلع والجزع ، وتنادوا بالويل والثبور والاعتراف بالظلم وتجاوز الحدود . ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً … } . أى ونحضر الموازين العادلة لمحاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة ولإعطاء كل واحد منهم ما يستحقه من ثواب أو عقاب ، دون أن يظلم ربك أحداً من خلقه . { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } أى وإن كانت الأعمال التى عملها الإِنسان فى الدنيا فى نهاية الحقارة والقلة ، أتينا بها فى صحيفة عمله لتوزن ، وكفى بنا عادِّين ومحصين على الناس أعمالهم ، إذ لا يخفى علينا شىء منها سواء أكان قليلا أم كثيراً . قال ابن كثير قوله { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ } الأكثر على أنه ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه . وقال القرطبى " الموازين جمع ميزان ، فقيل إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله ، فتوضع الحسنات فى كفة ، والسيئات فى كفة . وقيل يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد ، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله … وقيل ذِكْر الميزان مثَل وليس ثَمَّ ميزان وإنما هو العدل ، والذى وردت به الأخبار ، وعليه السواد الأعظم القول الأول . و " القسط " صفة الموازين ووحد لأنه مصدر … واللام فى قوله { لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } قيل للتوقيت . أى للدلالة على الوقت ، كقولهم جاء فلان لخمس ليال بقين من الشهر . وقيل هى لام كى ، أى لأجل يوم القيامة ، أو بمعنى فى أى في يوم القيامة . وقوله - سبحانه - { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } بيان للعدل الإلهى ، وأنه - سبحانه - لا يظلم أحدا شيئا مما له أو عليه ، أى فلا تظلم نفس شيئا من الظلم لا قليلا ولا كثيراً . وقوله { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا } تصوير لدقة الحساب ، وعدم مغادرته لشىء من أعمال الناس ، إذ الخردل حب فى غاية الصغر والدقة . ومثقال الشىء وزنه . وأنث الضمير فى قوله " بها " وهو راجع إلى المضاف الذى هو " مثقال " وهو مذكر . لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذى هو " حبة من خردل " . وقوله - سبحانه - { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } بيان لإِحاطة الله - تعالى - بعلم كل شىء . كما قال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أولئك المشركين بجانب من نعم الله - تعالى - عليهم ، وحضهم على التدبر والاتعاظ ، وأنذرتهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى كفرهم وشركهم ، وصورت لهم دقة الحساب يوم القيامة ، وأن كل إنسان سيحاسب على عمله سواء أكان صغيراً أم كبيراً ، ولا يظلم ربك أحدا . وبعد أن فصل - سبحانه - الحديث عن دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ورد على المشركين ردا يفحمهم ، أتبع ذلك بالحديث عن قصص بعض الأنبياء تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيتا لقلبه ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ … } .