Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 1-11)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، نسمع عند وجهه كدوى النحل ، فأنزل عليه يوماً ، فمكثنا ساعة فسرى عنه ، فاستقبل القبلة ، فرفع يديه فقال " اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا . ثم قال لقد أنزلت على عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } " . وأخرج النسائى عن يزيد بن بابنوس قال قلنا لعائشة يا أم المؤمنين ، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت كان خلقه القرآن ، ثم قرأت { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } حتى انتهت إلى قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقالت هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفلاح الظفر بالمراد ، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه . والخشوع السكون والطمأنينة ، ومعناه شرعاً خشية فى القلب من الله - تعالى - تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدى الله - سبحانه - . والمعنى قد فاز وظفر بالمطلوب ، أولئك المؤمنون الصادقون ، الذين من صفاتهم أنهم فى صلاتهم خاشعون ، بحيث لا يشغلهم شىء وهم فى الصلاة عن مناجاة ربهم ، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة . ومن مظاهر الخشوع أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده ، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة ، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشىء من جسده ، فقد أبصر النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فى الصلاة فقال " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " . قال القرطبى " اختلف الناس فى الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول عمل يرفع من الناس … " . وقوله - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } بيان لصفة ثانية من صفات هؤلاء المؤمنين . واللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأعمال . فيدخل فيه اللهو والهزل وكل ما يخل بالمروءة وبآداب الإسلام . أى أن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم ينزهون أنفسهم عن الباطل والساقط من القول أو الفعل ، ويعرضون عن ذلك فى كل أوقاتهم لأنهم لحسن صلتهم بالله - تعالى - اشتغلوا بعظائم الأمور وجليلها لا بحقيرها وسفسافها ، وهم كما وصفهم الله - سبحانه - فى آية أخرى { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقد بينها - سبحانه - بقوله { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } . ويرى أكثر العلماء أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأموال . قالوا لأن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة ، وما فرض بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة هو مقاديرها ، ومصارفها ، وتفاصيل أحكامها أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يخرجون زكاة أموالهم عن طيب نفس . ويرى بعض العلماء أن المراد بالزكاة هنا زكاة النفس . أى تطهيرها من الآثام والمعاصى . فهى كقوله - تعالى - { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين ، أنهم يفعلون ما يطهر نفوسهم ويزكيها . قال ابن كثير رحمه الله ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذى يتعاطى هذا وهذا " . ثم بين - سبحانه - الصفة الرابعة من صفاتهم فقال { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } . أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين - أيضاً - أنهم أعفاء ممسكون لشهواتهم لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم التى أحلها الله - تعالى - لهم ، أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسرارى ، وذلك لأن من شأن الأمة المؤمنة إيماناً حقاً ، أن تصان فيها الأعراض ، وأن يحافظ فيها على الأنساب ، وأن توضع فيها الشهوات فى مواضعها التى شرعها الله - تعالى - وأن يغض فيها الرجال أبصارهم والنساء أبصارهن عن كل ما هو قبيح . وما وجدت أمة انتشرت فيها الفاحشة ، كالزنا واللواط وما يشبههما ، إلا وكان أمرها فرطاً ، وعاقبتها خسرا ، إذ فاحشة الزنا تؤدى إلى ضياع الأنساب ، وانتشار الأمراض ، وفساد النفوس من كل قيمة خلقية مقبولة . وفاحشة اللواط وما يشبهها تؤدى إلى شيوع الفاحشة فى الأمة ، وإلى تحول من يأتى تلك الفاحشة من أفرادها إلى مخلوقات منكوسة ، تؤثر الرذيلة على الفضيلة . وجملة { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } تعليل للاستثناء . أى هم حافظون لفروجهم ، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنهم غير مؤاخذين على ذلك ، لأن معاشرة الأزواج أو ما ملكت الأيمان ، مما أحله الله تعالى . وقوله { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ } أى فمن طلب خلاف ذلك الذى أحله الله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أى المعتدون المتجاوزون حدوده - سبحانه - ، الوالغون فى الحرام الذى نهى الله - تعالى - عنه . يقال عدا فلان الشىء يعدوه عدوا ، إذا جاوزه وتركه . أما الصفة الخامسة من صفات هؤلاء المفلحين ، فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } . والأمانات جمع أمانة ، وتشمل كل ما استودعك الله - تعالى - إياه ، وأمرك بحفظه . فتشمل جميع التكاليف التى كلفنا الله بأدائها كما تشمل الأموال المودعة ، والأيمان والنذور والعقود وما يشبه ذلك . والعهود جمع عهد . ويتناول كل ما طلب منك الوفاء به من حقوق الله - تعالى - وحقوق الناس . قال القرطبى والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه ، قولاً وفعلاً ، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك . وغاية ذلك حفظه والقيام به . والأمانة أعم من العهد وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد " . وراعون من الرعى بمعنى الحفظ يقال رعى الأمير رعيته رعاية ، إذا حفظها واهتم بشئونها . أى أن من صفات هؤلاء المفلحين . أنهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات ، ويوفون بعهودهم مع الله - تعالى - ومع الناس ، ويؤدون ما كلفوا بأدائه بدون تقصير أو تقاعس . وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم . إلا إذا أديت فيها الأمانات ، وحفظت فيها العهود ، واطمأن فيها كل صاحب حق إلى وصول هذا الحق إليه . أما الصفة السادسة والأخيرة من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، فهى قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } . أى أن من صفاتهم أنهم يحافظون على الصلوات التى أمرهم الله بأدائها محافظة تامة ، بأن يؤدوها فى أوقاتها كاملة الأركان والسسن والآداب والخشوع ، ولقد بدأ - سبحانه - صفات المؤمنين المفلحين بالخشوع فى الصلاة وختمها بالمحافظة عليها للدلالة على عظم مكانتها ، وسمو منزلتها . وبعد أن بين - سبحانه - تلك الصفات الكريمة التى تحلى بها أولئك المؤمنون المفلحون ، وهى صفات تمثل الكمال الإنسانى فى أنقى صوره . بعد ذلك بين - سبحانه - ما أعد لهم من حسن الثواب فقال { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . والفردوس أعلى الجنات وأفضلها وهو لفظ عربى يجمع فى فراديس . وقيل هو لفظ معرب معناه الذى يجمع ما فى البساتين من ثمرات . وفى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة " . أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة ، هم الجديرون بالفلاح فإنهم يرثون أعلى الجنات وأفضلها ، وهم فيها خالدون خلوداً أبديًّا لا يمسهم فيها نصب ، ولا يمسهم فيها لغوب . وعبر - سبحانه - عن حلولهم فى الجنة بقوله { يَرِثُونَ } للإشعار بأن هذا النعيم الذى نزلوا به ، قد استحقوه بسبب أعمالهم الصالحة ، كما يملك الوارث ما ورثه عن غيره ، ومن المعروف أن ما يملكه الإنسان عن طريق الميراث يعتبر أقوى أسباب الملك . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله - سبحانه - { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وحذف مفعول اسم الفاعل الذى هو { ٱلْوَارِثُونَ } لدلالة قوله { ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } عليه . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المؤمنين الصادقين مدحاً عظيماً ووعدتهم بالفوز بأعلى الجنات وأفضلها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وبعد الحديث عن صفات المؤمنين المفلحين ، انتقلت السورة إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان ، وأطوار نموه ، ونهاية حياته ، وبعثه للحساب يوم القيامة ، - فقال - تعالى - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا … } .