Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 19-22)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإمام الرازى " اعلم أنه - سبحانه - بعد أن بين ما على أهل الإفك ، وما على من سمع منهم ، وما ينبغى أن يتمسك به المؤمنون من آداب ، أتبعه بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك فى هذا الذم ، كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره ، وليعلم أهل الإفك كما أن عليهم العقوبة فيما أظهروه ، فكذلك يستحقون العقوبة بما أسروه ، من محبة إشاعة الفاحشة فى المؤمنين . ومعنى " تشيع " تنتشر وتكثر ، ومنه قولهم شاع الحديث . إذا ظهر بين الناس . والفاحشة هى الصفة البالغة أقصى دركات القبح ، كالرمى بالزنا وما يشبه ذلك . وهى صفة لموصوف محذوف . أى الخصلة الفاحشة ، والمقصود بمحبة شيوعها محبة شيوع خبرها بين عامة الناس . والمعنى إن الذين يحبون أن تنتشر قالة السوء بين صفوف المؤمنين ، وفى شأنهم ، لكى يلحقوا الأذى بهم ، هؤلاء الذين يحبون ذلك " لهم " بسبب نواياهم السيئة " عذاب أليم فى الدنيا " كإقامة الحد عليهم ، وازدراء الأخيار لهم ، ولهم - أيضا - عذاب أليم " فى الآخرة " وهو أشد وأبقى من عذاب الدنيا . " والله " تعالى وحده " يعلم " ما ظهر وما خفى من الأمور والأحوال " وأنتم " أيها الناس - " لا تعلمون " إلا ما كان ظاهرا منها ، فعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ، واتركوا بواطنهم لخالقهم ، فهو - سبحانه - الذى يتولى محاسبتهم عليها . فالآية الكريمة يؤخذ منها أن العزم على ارتكاب القبيح ، منكر يعاقب عليه صاحبه ، وأن محبة الفجور وشيوع الفواحش فى صفوف المؤمنين ، ذنب عظيم يؤدى إلى العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، لأن الله - تعالى - علق الوعيد الشديد فى الدارين على محبة انتشار الفاحشة فى الذين آمنوا . ثم ذكر - سبحانه - المؤمنين بفضله عليهم مرة أخرى ، لكى يزدادوا اعتبارا واتعاظا فقال { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . وجواب " لولا " محذوف ، كما أن خبر المبتدأ محذوف ، والتقدير ولولا فضل الله عليكم ، ورحمته بكم موجودان ، لعاجلكم بالعقوبة . ولكنه - سبحانه - لم يعاجلكم بها ، لأنه شديد الرأفة والرحمة بعباده ، ولو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك عليها من دابة . ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن اتباع خطوات الشيطان ، فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } . والخطوات جمع خطوة . وهى فى الأصل تطلق على ما بين القدمين . والمراد بها هنا طرقه ومسالكه ووساوسه ، التى منها الإِصغاء إلى حديث الإِفك ، والخوض فيه . وما يشبه ذلك من الأقوال الباطلة ، والأفعال القبيحة . أى يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، احذروا أن تسلكوا المسالك التى يغريكم بسلوكها الشيطان ، فإن الشيطان وظيفته الإِغراء بالشر لا بالخير ، والأمر بالفحشاء والمنكر ، وليس بالفضائل والمعروف . وجواب الشرط فى قوله { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } محذوف ، والتقدير ومن يتبع خطوات الشيطان يقع فى الضلال والعصيان ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر . وخاطبهم - سبحانه - بصفة الإيمان ، لتحريك قوة الإيمان فى قلوبهم ، ولتهييجهم على الاستجابة لما أرشدهم إليه - سبحانه - . وقوله - سبحانه - { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً … } بيان لمظاهر فضله - تعالى - ولطفه بعباده المؤمنين . والمراد بالتزكية هنا التطهير من أرجاس الشرك ، ومن الفسوق والعصيان . أى ولولا فضل الله عليكم - أيها المؤمنون - ورحمته بكم - ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب والمعاصى طول حياته ، ولكن الله - تعالى - بفضله ورحمته يطهر من يشاء تطهيره من الأرجاس والأنجاس . بأن يقبل توبته . ويغسل حوبته . " والله " - تعالى - " سميع " لدعاء عباده ومناجاتهم إياه " عليم " بما يسرونه وما يعلنونه من أقوال وأفعال . ثم حض - عز وجل - أصحاب النفوس النقية الطاهرة ، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة ، فقال { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شأن أبى بكر - رضى الله عنه - عندما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة . وكان مسطح قريبا لأبى بكر . وكان من الفقراء الذين تعهد - أبو بكر رضى الله عنه - بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه . وقوله { وَلاَ يَأْتَلِ } أى ولا يحلف . يقال آلى فلان وائتلى . إذا حلف ومنه قوله - تعالى - { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ … } أى يحلفون . أى ولا يحلف " أولوا الفضل منكم والسعة " أى أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين . وفى سعة المال " أن يؤتوا أولى القربى … " أى على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، شيئا من أموالهم . فالكلام فى قوله " أن يؤتوا " على تقدير حرف الجر ، أى لا يحلفوا على أن لا يؤتوا ، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد ، ومفعول " يؤتوا " الثانى محذوف . أى أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، النفقة التى تعودوا أن يقدموها لهم . وقوله - تعالى - { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } تحريض على العفو والصفح . والعفو معناه التجاوز عن خطأ المخطىء ونسيانه ، مأخوذ من عفت الريح الأثر ، إذا طمسته وأزالته . والصفح مقابلة الإِساءة بالإِحسان ، فهو أعلى درجة من العفو . أى قابلوا - أيها المؤمنون - إساءة المسىء بنسيانها ، وبمقابلتها بالإِحسان . وقوله { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أى ألا تحبون - أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم ، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم ؟ فالجملة الكريمة ترغيب فى العفو والصفح بأبلغ أسلوب ، وقد صح أن أبا بكر - رضى الله عنه - لما سمع الآية قال بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا ، وأعاد إلى مسطح نفقته ، وفى رواية أنه - رضى الله عنه - ضاعف لمسطح نفقته . قال الآلوسى " وفى الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها . واستدل بها على فضل الصديق - رضى الله عنه - لأنه داخل فى أولى الفضل قطعا ، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر فى ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر … " . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أى والله - تعالى - كثير المغفرة ، وواسع الرحمة بعباده ، فكونوا - أيها المؤمنون - أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم . وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بالعفو والصفح عمن استزلهم الشيطان ، فخاضوا فى حديث الإِفك ثم ندموا وتابوا ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة المصريين على خبثهم وعلى محبة إشاعة الفاحشة فى صفوف الجماعة الإِسلامية فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ … } .