Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-38)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام القرطبى ما ملخصه " قوله - تعالى - { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . النور فى كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح . فيقال كلام له نور … وفلان نور البلد . فيجوز أن يقال الله - تعالى - نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو - سبحانه - ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية فقيل المعنى به وبقدرته أنارت أضواؤها . واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال الملك نور أهل البلد ، أى به قوام أمرها … فهو - أى النور - فى الملك مجاز . وهو فى صفة الله - تعالى - حقيقة محضة . قال ابن عرفة أى منور السموات والأرض . وقال مجاهد مدبر الأمور فى السموات والأرض . قال ابن عباس المعنى الله هادى السموات والأرض . والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل . ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذى رجحه الإِمام القرطبى فيكون معنى الجملة الكريمة الله - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده - سبحانه - وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس فى دنياهم وآخرتهم . وقال ابن كثير " وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " . وقال صلى الله عليه وسلم فى دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف " أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بى غضبك ، أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى - أى الرجوع عن الذنب - حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " . وأضاف - سبحانه - نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه فى الكون كله . ثم قرب - عز وجل - نوره إلى الأذهان فقال { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ … } . أى صفة نوره العجيبة الشأن فى الإِضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة - وهى الفتحة الصغيرة فى الجدار دون أن تكون نافذة فيه - هذه المشكاة فيها مصباح ، أى سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار . وقال - سبحانه - { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن وجود المصباح فى هذه المشكاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف مالو كان المصباح فى مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك . { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أى فى قنديل من الزجاج الصافى النقى ، الذى يقيه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا . هذه { ٱلزُّجَاجَةُ } فى ذاتها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أى شديد الإِنارة ، نسبة إلى الدر فى صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أى هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى كثيرة المنافع ، زيتونة أى هى شجرة الزيتون . فحرف " من " لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى من زيت شجرة ، مباركة صفة لشجرة ، وزيتونة بدل أو عطف بيان من شجرة . ووصف - سبحانه - شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها ، وتعدد فوائدها التى من مظاهرها الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها . قال - تعالى - { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وقوله - سبحانه - { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } صفة أخرى لشجرة الزيتون . أى أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هى مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها . وقوله - تعالى - { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } صفة ثالثة لتلك الشجرة . أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه يضىء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها . قال بعض العلماء وقد شُبِّه فى الآية نورُ الله ، بمعنى أدلته ، وآياته - سبحانه - من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق فى الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التى فيها زجاجة صافية ، وفى تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية فى الصفاء والرقة والإِشراق ، حتى يكاد يضىء بنفسه من غير أن تمسه نار " . وقوله - سبحانه - { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } أى هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله - تعالى - لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى . فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها . فقوله { نُّورٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى هو نور . وقوله { عَلَىٰ نُورٍ } متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . أى كائن على نور مثله . ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فقال { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أى يهدى الله - تعالى - لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } . أى ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس ، لكى يقرب لهم الأمور وييسر لهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول فى صورة المحسوس ، والله - تعالى - بكل شىء عليم ، سواء أكان هذا الشىء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا . قال بعض العلماء ما ملخصه هذه الآية الكريمة من الآيات التى صنفت فيها مصنفات ، منها " مشكاة الأنوار " للإِمام الغزالى … ومنها ما قاله الإِمام ابن القيم عنها فى كتابه " الجيوش الإِسلامية " . فقد قال - رحمه الله - سمى الله تعالى - نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ . قال - تعالى - { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادى أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذى هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق اسم النور الذى هو أحد الأسماء الحسنى … " . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } . وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى . و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " . والغدو والغداة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس . أى هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخره ، وفى غير ذلك من الأوقات . وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات . وقوله - تعالى - { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } مدح وتكريم لهؤلاء الرجال . أى يسبح الله - تعالى - فى تلك المساجد بالغدو والآصال ، رجال من شأنهم ومن صفاتهم ، أنهم لا يشغلهم ، " تجارة " مهما عظمت ، " ولا بيع " ، مهما اشتدت حاجتهم إليه " عن ذكر الله " أى عن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده وطاعته . ولا تشغلهم - أيضا - هذه التجارات والبيوع عن " إقام الصلاة " فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وعن " إيتاء الزكاة " للمستحقين لها . وذلك لأنهم " يخافون يوما " هائلا شديدا هو يوم القيامة الذى " تتقلب فيه القلوب والأبصار " أى تضطرب فيه القلوب والأبصار فلا تثبت من شدة الهول والفزع . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى حملتهم على الإِكثار من هذه الطاعات فقال { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } . أى إنهم يكثرون من تسبيح الله بالغدو والآصال ، دون أن يشغلهم عن ذلك أى شاغل ، لأنهم يرجون منه - سبحانه - أن يجزيهم أحسن الجزاء على أعمالهم ، وأن يزيدهم من فضله وإحسانه ، بما يليق بكرمه وامتنانه . " والله " - تعالى - " يرزق من يشاء " أن يرزقه " بغير حساب " أى بدون حدود ، ولا قيود ، وبدون حصر لما يعطيه ، لأن خزائنه لا تنقص ولا تنفد ، حتى يحتاج إلى عد وحساب لما يخرج منها . فالجملة الكريمة تذييل قصد به التقرير للزيادة التى يتطلع إليها هؤلاء الرجال الصالحون ، ووعد منه - عز وجل - بأنه سيرزقهم رزقا يزيد عما يتوقعونه . وبذلك نرى الآيات قد طوفت بنا مع نور الله - عز وجل - ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار ، الذين يكثرون من طاعة الله - تعالى - فى بيوته التى أمر برفعها ، دون أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وبشرتهم بالعطاء الواسع الذى سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه . وبعد تلك الصورة المشرقة التى بينها - سبحانه - لمن هداهم لنوره ، أتبع ذلك بضرب مثلين لأعمال الكفار ، فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ … } .