Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 43-45)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { يُزْجِي } من الإِزجاء بمعنى الدفع بأناة ورفق . يقال زجى الراعى إبله تزجية ، إذا ساقها برفق . وأزجت الريح السحاب ، أى دفعته . والمعنى لقد علمت - أيها العاقل - ورأيت بعينيك ، أن الله - تعالى - يسوق بقدرته السحاب الذى فى الجو ، سوقا رفيقا إلى حيث يريد . { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أى يسوق - سبحانه - السحاب سوقا هادئا سهلا . ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض ، ويجمع بعضه مع بعض ، ثم بعد ذلك { يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أى متراكما بعضه فوق بعض . يقال ركم فلان الشىء يركمه ركما ، إذا جمعه ، وألقى بعضه على بعض ، ومنه الرمل المتراكم ، أى المجتمع . وهذا الذى حكاه القرآن من سوق الله - تعالى - للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله - تعالى - ، الذى أحسن كل شىء خلقه . وقوله - سبحانه - { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق ، والتجمع الدقيق من آثار . والودق المطر . وهو فى الأصل مصدر ودَق السحاب يدِق وَدْقاً ، إذا نزل منه المطر . والخلال جمع خلل - كجبال وجبل - والمراد بها الفتوق والشقوق . قال القرطبى فى " الودق " قولان أحدهما أنه البرق … والثانى أنه المطر . وهو قول الجمهور يقال ودقت السحابة فهى وادقة . وودق المطر يدق ودقا . أى قطر . أى يسوق الله - تعالى - السحاب إلى حيث يشاء بقدرته ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض ، فترى - أيها العاقل - المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه ، تارة بشدة وعنف ، وتارة بهدوء ورفق . وقوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ … } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - . أى وينزل - سبحانه - من جهة السماء قطعا من السحاب كأنها القطع من الجبال فى عظمها وضخامتها ، { فِيهَا مِن بَرَدٍ } أى فى تلك القطع من السحاب الكثير من البرد ، وهو شىء ينزل من السحاب يشبه الحصى ، ويسمى حب الغمام وحب المزن . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما الفرق بين " من " الأولى ، والثانية ، والثالثة فى قوله { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؟ . قلت الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان ، أو الأوليان للابتداء ، والآخرة للتبعيض . فإن قلت ما معنى { مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؟ قلت فيه معنيان أحدهما أن يخلق الله فى السماء جبال برد . كما فى الأرض جبال حجر ، والثانى أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال فلان يملك جبالا من ذهب . وقوله - تعالى - { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أى فيصيب بالذى ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده ، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم ، إذ الإِصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } . والسنا شدة الضوء . يقال سنا الشىء يسنو سنا ، إذا أضاء . أى يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإِزجاء والتأليف والتراكم … يخطف الأبصار من شدة إضاءته ، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه . وبعد أن ساق - سبحانه - هذا الدليل العلوى على وحدانيته وقدرته . أتبعه بدليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه فى حياتهم فقال { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلليْلَ وَٱلنَّهَارَ } أى يعاقب بينهما فيأتى بهذا ، ويذهب بذاك ، وينقص أحدهما ويزيد فى الآخر ، ويجعل أولهما وقتا لحلول نعمه والثانى لنزول نقمه ، أو العكس ، فهو - سبحانه - صاحبهما والمتصرف فيها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } التقليب والإزجاء والتأليف ، وغير ذلك من مظاهر قدرته المبثوثة فى الآفاق " لآيات " عظيمة { لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } التى تبصر قدرة الله - تعالى - وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة . ثم ساق - سبحانه - دليلا ثالثا من واقع خلق كل دابة ، وبديع صنعه فيما خلقه فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ … } . والدابة اسم لكل حيوان ذى روح ، سواء أكان من العقلاء أم من غيرهم . وهذا اللفظ مأخوذ من الدبيب ، بمعنى المشى الخفيف . وتطلق الدابة فى العرف على ذوات الأربع ، والمراد بها هنا ما هو أعم من ذلك . قال بعض العلماء " وهذه الحقيقة الضخمة التى يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعنى وحدة العنصر الأساسى فى تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعنى ما يحاول العلم الحديث أن يتبعه من أن الحياة خرجت من البحر ، ونشأت أصلا فى الماء ، ثم تنوعت الأنواع وتفرعت الأجناس . ولكنا نحن على طريقتنا فى عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل … لا نزيد على هذه الإِشارة شيئا ، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية ، وهى أن الله - تعالى - خلق الأحياء كلها من الماء ، فهى ذات أصل واحد ، ثم هى - كما ترى العين - متنوعة الأشكال … وقال الإِمام الرازى فإن قيل لماذا نكر الماء هنا ، وجاء معرفا فى قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والجواب إنما جاء هنا منكرا ، لأن المعنى ، أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة ، وإنما جاء معرفا فى قوله { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } لأن المقصود هناك ، كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وههنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة . وقوله - تعالى - { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ … } تفصيل لهذه المخلوقات التى خلقت من الماء . والضمير فى " منهم " يعود إلى " كل " باعتبار معناه ، وفيه تغليب العاقل على غيره . أى فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه كالزواحف وما يشبهها ، { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ } كالإِنس والطير { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } كالأنعام والوحوش { يَخْلُقُ ٱللَّهُ } - تعالى - { مَا يَشَآءُ } خلقه من دواب وغيرها على وفق إرادته وحكمته { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه - سبحانه - خلق ما يريد خلقه ، ولا يمنعه من ذلك مانع ، بل كل شىء خاضع لقدرته - عز وجل . وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله - تعالى - . منها ما يتعلق بالكائن العلوى ، ومنها ما يتعلق بالزمان ، ومنها ما يتعلق بخلق أنواع الدواب على اختلاف أشكالها . وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من الأحكام والآداب ومن الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، أتبعت ذلك بالحديث عن طائفة المنافقين ، الذين لم ينتفعوا بآيات الله ، ولم يتأدبوا بأدب المؤمنين … فقال - تعالى - { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ … } .