Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 4-5)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { يَرْمُونَ } من الرمى ، وأصله القذف بشىء صلب أو ما يشبهه تقول رمى فلان فلانا بحجر . إذا قذفه به . والمراد به هنا الشتم والقذف بفاحشة الزنا ، أو ما يستلزمه كالطعن فى النسب . قال الإمام الرازى وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا الرمى بالزنا . وفى الآية أقوال تدل عليه . أحدها تقدم ذكر الزنا . وثانيها أنه - تعالى - ذكر المحصنات ، وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد بالرمى رميهن بضد العفاف ، وثالثها قوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعنى على صحة ما رموهن به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزنا ، ورابعها انعقاد الإِجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمى بغير الزنا . فوجب أن يكون المراد هنا هو الرمى بالزنا … " . و " المحصنات " جمع محصنة ، والإحصان فى اللغة بمعنى المنع ، يقال هذه درع حصينة ، أى مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال هذا موضع حصين ، أى مانع من يريده بسوء . والمراد بالمحصنات هنا النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة . وسميت المرأة العفيفة بذلك . لأنها تمنع نفسها من كل سوء . قالوا ويطلق الإِحصان على المرأة والرجل ، إذا توفرت فيهما صفات العفاف . والإِسلام ، والحرية ، والزواج . وأنما خص - سبحانه - النساء بالذكر هنا لأن قذفهن أشنع ، والعار الذى يلحقهن بسبب ذلك أشد ، وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء . وقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ … } مبتدأ ، أخبر عنه بعد ذلك بثلاث جمل ، وهى قوله " فاجلدوهم … ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون " . والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به ، فاجلدوا - أيها الحكام - هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة ، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء فى حق هؤلاء المحصنات ، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بىء منها . وأولئك هم الفاسقون . أى الخارجون على أحكام شريعة الله - تعالى - وعلى آدابها السامية . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات . أولاها حسية ، وتتمثل فى جلدهم ثمانين جلدة ، وهى عقوبة قريبة من عقوبة الزنا . وثانيتها معنوية ، وتتمثل فى عدم قبول شهادتهم ، بأن تهدر أقوالهم ، ويصيرون فى المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين ، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم ، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم ، لأنهم انسخلت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم . وثالثتها دينية ، وتتمثل فى وصف الله - تعالى - لهم بالفسق . أى بالخروج عن طاعته - سبحانه - وعن آداب دينه وشريعته . وما عاقب الله - تعالى - هؤلاء القاذفين فى أعراض الناس ، بتلك العقوبات الرادعة ، إلا لحكم من أهمها حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء ، وصيانتهم من كل ما يخدش كرامتهم ، ويجرح عفافهم . وأقسى شىء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة ، أن تلصق بهم التهم الباطلة . وعلى رأس الرذائل التى تؤدى إلى فساد المجتمع ، ترك ألسنة السوء تنهش أعراض الشرفاء ، دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها . وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء فى قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ } يعود على الجملة الأخيرة . بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم . أى وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه . هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله - تعالى - ، إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا ، وأصحلوا أحوالهم وأعمالهم ، فإن الله - تعالى - كفيل بمغفرة ذنوبهم ، وبشمولهم برحمته . كما اتفقوا - أيضا - على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهى الجلد ، لأن هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم ، متى ثبت قذفهم للمحصنات ، حتى ولو تابوا وأصلحوا . والخلاف إنما هو فى العقوبة الوسطى وهى قبول شهادتهم ، فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة ، فيكون المعنى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، فاقبلوا شهادتهم . ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم ، وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهى الفسق ، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أى طول مدة حياتهم ، حتى وإن تابوا وأصلحوا . وقد فصل القول فى هذه المسألة الإمام القرطبى فقال ما ملخصه " تضمنت الآية ثلاثة أحكام فى القاذف جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه . فالاستثناء غير عامل فى جلده وإن تاب - أى أنه يجلد حتى ولو تاب . وعامل فى فسقه بإجماع . أى أن صفة الفسق تزول عنه بعد ثبوت توبته . واختلف الناس فى عمله فى رد الشهادة . فقال أبو حنيفة وغيره " لا يعمل الاستثناء فى رد شهادته . وإنما يزول فسقه عند الله - تعالى - . وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة . ولو تاب وأكذب نفسه ، ولا بحال من الأحوال . وقال الجمهور الاستثناء عامل فى رد الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وإنما كان ردها لعلة الفسق ، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا ، قبل الحد وبعده . وهو قول عامة الفقهاء . ثم اختلفوا فى صورة توبته ، فمذهب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - والشعبى وغيره أن توبته لا تكون - مقبولة - إلا إذا كذب نفسه فى ذلك القذف الذى حد فيه . وقالت فرقة منها مالك وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله ، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، وحسبه الندم على قذفه ، والاستغفار منه ، وترك العود إلى مثله " . ويبدو لنا أن ما أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الأولى بالقبول ، لأن اعتراف القاذف بكذبه ، فيه محو لآثار هذا القذف ، وفيه تبرئة صريحة للمقذوف ، وهذه التبرئة تزيده انشراحا وسرورا ، وترد إليه اعتباره بين أفراد المجتمع . كما يبدو لنا أن الأًَوْلى فى هذه الحالة أن تقبل شهادة القاذف ، بعد هذه التوبة التى صاحبها اعتراف منه بكذبه فيما قال لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله . وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه ، بهذه التشريعات الحكيمة ، التى يؤدى اتباعها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة . ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن حكم القذف بصفة عامة ، إلى الحديث عن حكم القذف إذا ما حدث بين الزوجين ، فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ … } .