Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 55-57)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام ابن كثير " هذا وعد من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أى أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك … فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب ، ولهذا ثبت فى الصحيح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها … " . وفى تصدير الآية الكريمة بقوله - تعالى - { وَعَدَ ٱللَّهُ … } بشارة عظيمة للمؤمنين ، بتحقيق وعده - تعالى - ، إذ وعد الله لا يتخلف . كما قال - تعالى - { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، ومن بيانية ، والآية الكريمة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو قوله - تعالى - { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ … } أى وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين صدقوا فى إيمانهم من عباده ، والذين جمعوا مع الإِيمان الصادق ، العمل الصالح ، وعدهم ليستخلفهم فى الأرض ، أى ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة ، بدلا من أعدائهم الكفار . قال الآلوسى واللام فى قوله " ليستخلفنهم " واقعة فى جواب القسم المحذوف . ومفعول وعد الثانى محذوف دل عليه الجواب . أى وعد الله الذين آمنوا استخلافهم ، وأقسم ليستخلفنهم … و " ما " فى قوله " كما استخلف " مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف . وقع صفة لمصدر محذوف ، أى ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه " الذين من قبلهم " من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله - تعالى - فى الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين . هذا هو الوعد الأول للمؤمنين أن يجعلهم - سبحانه - خلفاءه فى الأرض . كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه ، وأورثهم أرض الكفار وديارهم . وأما الوعد الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ } . والتمكين التثبيت والتوطيد والتمليك . يقال تمكن فلان من الشىء ، إذا حازه وقدر عليه . أى وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه فى أرضه ، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإِسلام الذى ارتضاه لهم . ثابتا فى القلوب ، راسخا فى النفوس . باسطا سلطانه على أعدائه ، له الكلمة العليا فى هذه الحياة ، ولمخالفيه الكلمة السفلى . وأما الوعد الثالث فهو قوله - سبحانه - { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } . أى وعدهم الله - تعالى - بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم . وبأن يجعل لهم بدلا من الخوف الذى كانوا يعيشون فيه ، أمنا واطمئنانا ، وراحة فى البال ، وهدوءا فى الحال . قال الربيع بن أنس عن أبى العالية فى هذه الآية " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين . يدعون إلى الله وحده … وهم خائفون ، فلما قدموا المدينة أمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح . فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلاً من الصحابة قال يا رسول الله " أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال صلى الله عليه وسلم لن تَغْبَرُوا - أى لن تمكثوا - إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة " . وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح … ولكن هذا الاستخلاف والتمكين والأمان متى يتحقق منه - سبحانه - لعباده ؟ لقد بين الله - تعالى - الطريق إلى تحققه فقال { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فهذه الجملة الكريمة يصح أن تكون مستأنفة ، أى جوابا لسؤال تقديره متى يتحقق هذا الاستخلاف والتمكين والأمان بعد الخوف للمؤمنين ؟ فكان الجواب يعبدوننى عبادة خالصة تامة مستكملة لكل شروطها وآدابها وأركانها ، دون أن يشركوا معى فى هذه العبادة أحدا كائنا من كان . كما يصح أن تكون حالا من الذين آمنوا ، فيكون المعنى وعد الله - تعالى - عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم فيها . وبتبديل خوفهم أمنا ، فى حال عبادتهم له - سبحانه - عبادة لا يشوبها شرك أو رياء أو نقص . وروى الإِمام أحمد عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب " . ذلك هو وعد الله - تعالى - لعباده الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، وأدوا ما أمرهم به ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، أما الذين انحرفوا عن طريق الحق . وجحدوا نعمه - سبحانه - عليهم ، فقد بين عاقبتهم فقال { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } . أى ومن كفر بعد كل هذه النعم التى وعدت بها عبادى الصالحين ، واستعمل هذه النعم فى غير ما خلقت له ، فأولئك الكافرون الجاحدون هم الفاسقون عن أمرى ، الخارجون عن وعدى ، الناكبون عن صراطى . وهكذا نرى الآية الكريمة قد جمعت أطراف الحكمة من كل جوانبها ، فقد رغبت المؤمنين فى إخلاص العبادة لله - تعالى - بأسمى ألوان الترغيب ، حيث بينت لهم أن هذه العبادة سيترتب عليها الاستخلاف والتمكين والأمان . ثم رهبت من الكفر والجحود ، وبينت أن عاقبتهما الفسوق والحرمان من نعم الله - تعالى - . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أهم أركان هذه العبادة فقال { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . أى واظبوا - أيها المؤمنون - على إخلاص العبادة لله - تعالى - وأدوا الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإحسان ، وقدموا الزكاة للمستحقين لها ، وأطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة تامة ، لعلكم بسبب هذه العبادة والطاعة ، تنالون رحمة الله - تعالى - ورضوانه . ثم ثبت الله - تعالى - المؤمنين ، وهون من شأن أعدائهم لكى لا يرهبهم قوتهم فقال { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . أى لا تظنن - أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين - أن الذين كفروا مهما أوتوا من قوة وبسطة من المال ، فى إمكانهم أن يعجزونا عن إهلاكهم واستئصالهم وقطع دابرهم ، فإن قوتنا لا يعجزها شىء وهم فى قبضتنا سواء أكانوا فى الأرض التى يعيشون عليها أم فى غيرها ، واعلم أن { وَمَأْوَاهُمُ } فى الآخرة { ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } هذه النار التى هى مستقرهم ومسكنهم . فالآية الكريمة بيان لمآل الكفرة فى الدنيا والآخرة ، بعد بيان ما أعده الله - تعالى - فى الدنيا والآخرة من استخلاف وتمكين وأمان ورحمة للمؤمنين . وقوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هو المفعول الأول ، لتحسبن ، وقوله { مُعْجِزِينَ } هو المفعول الثانى . قال القرطبى " وقرأ ابن عامر وحمزة " يحسبن " بالياء ، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله فى الأرض ، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين … " . أى أن " الذين كفروا " فى محل رفع فاعل يحسبن ، والمفعول الأول محذوف تقديره أنفسهم . وقوله { مُعْجِزِينَ } هو المفعول الثانى . وقوله - سبحانه - { وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } جواب لقسم مقدر . والمخصوص بالذم محذوف ، أى وبالله " لبئس المصير " هى . أى النار التى يستقرون فيها . وبعد هذه التوجيهات الحكيمة التى تتعلق ببيان أعمال المؤمنين ، وأعمال الكافرين ، وببيان جانب من مظاهر قدرة الله - تعالى - فى خلقه ، وببيان أقوال المنافقين التى تخالف أفعالهم ، وببيان ما وعد الله - تعالى - به المؤمنين من خيرات … بعد كل ذلك ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عما افتتحت به من الحديث عن الأحكام والآداب التى شرعها الله - تعالى - ، وأمر المؤمنين بالتمسك بها فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ … } .