Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 221-227)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ … } للتقرير ، والخطاب للمشركين الذين اتهموا النبى صلى الله عليه وسلم تارة بأنه كاهن ، وتارة بأنه ساحر أو شاعر . أى ألا تريدون أن تعرفوا - أيها المشركون - على من تتنزل الشياطين ؟ ! إنهم لا يتنزلون على الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن طبعه يتباين مع طبائعهم ، ومنهجه يتعارض مع مسالكهم ، فهو يدعو إلى الحق وهم يدعون إلى الباطل . إنما تتنزل الشياطين { عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ } أى كثير الإِفك والكذب { أَثِيمٍ } أى كثير الارتكاب للآثام والسيئات ، كأولئك الكهنة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل . والضمير فى قوله { يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } يجوز أن يعود إلى كل أفاك أثيم ، وهم الكهان وأشباههم ، والجملة صفة لهم ، أو مستأنفة . والمراد بإلقائهم السمع شدة الإِنصات ، وقوة الإِصغاء للتلقى . والمعنى تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم . وهؤلاء الأفاكون الآثمون ، منصتون إنصاتا شديدا إلى الشياطين ليسمعوا منهم ، وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يقولونه للناس ، وفيما يخبرون به عن الشياطين . روى البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت " سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال إنهم ليسوا بشىء ، قالوا يا رسول الله ، فإنهم يحدثون بالشىء يكون حقاً ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها - أى فيرددها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة - فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة " . ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين . وتكون الجملة حالية أو مستأنفة ، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى ليسترقوا شيئا من السماء . فيكون المعنى تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم ، حالة كون الشياطين ينصتون إلى الملأ الأعلى . ليسترقوا شيئا من السماء ، وأكثر هؤلاء الشياطين كاذبون فيما ينقلونه إلى الأفاكين والآثمين من الكهان . ويصح أن يكون السمع بمعنى المسموع . أى يلقى كل من الشياطين والكهنة ما يسمعونه إلى غيرهم . قال الجمل قوله { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } الأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم ، على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجنى . أو المعنى وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقا على الإطلاق … فالكثرة فى المسموع لا فى ذوات القائلين . وقال بعضهم المراد بالأكثر الكل … والمقصود من هذه الآيات الكريمة إبطال ما زعمه المشركون من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى هذا القرآن عن الشياطين أو عن غيرهم ، وإثبات أن هذا القرآن ما نزل إلا من عند الله - تعالى - بواسطة الروح الأمين . وقوله - سبحانه - { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } إبطال لشبهة أخرى من شبهاتهم وهى زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر . والشعراء جمع شاعر كعالم وعلماء . والغاوون جمع غاو وهو الضال عن طريق الحق . أى ومن شأن الشعراء أن الذين يتبعونهم من البشر ، هم الضالون عن الصراط المستقيم ، وعن جادة الحق والصواب . وقوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } تأكيد لما قبله ، من كون الشعراء يتبعهم الغاوون . والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية والمعرفة . والوادى هو المكان المتسع . والمراد به هنا فنون القول وطرقه . ويهيمون من الهيام وهو أن يذهب المرء على وجهه دون أن يعرف له جهة معينة يقصدها . يقال هام فلان على وجهه ، إذا لم يكن له مكان معين يقصده . والهيام داء يستولى على الإبل فيجعلها تشرد عن صاحبها بدون وقوف فى مكان معين ، ومنه قوله - تعالى - { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } أى الجمال العطاش الشاردة . والمعنى ألم تر - أيها العاقل - أن هؤلاء الشعراء فى كل فن من فنون الكذب فى الأقوال يخوضون ، وفى كل فج من فجاج الباطل والعبث والفحش يتكلمون ، وأنهم فوق ذلك يقولون مالا يفعلون ، فهم يحضون غيرهم على الشىء ولا يفعلونه ، وهم يقولون فعلنا كذا وفعلنا كذا - على سبيل التباهى والتفاخر - مع أنهم لم يفعلوا . قال صاحب الكشاف ذكر الوادى والهيوم فيه تمثيل لذهابهم فى كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو فى المنطق ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البرىء ، ويفسقوا التقى . وقوله - تعالى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ … } استثناء من الشعراء المذمومين الذين يتبعهم الغاوون ، والذين هم فى كل واد يهيمون . أى إلا الشعراء الذين آمنوا بالله - تعالى - وعملوا الأعمال الصالحات وذكروا الله كثيرا بحيث لا يشغلهم شعرهم عن طاعة الله ، وانتصروا من بعد ما ظلموا من أعدائهم الكافرين ، بأن ردوا على أباطيلهم ، ودافعوا عن الدين الحق . إلا هؤلاء ، فإنهم لا يكونون من الشعراء المذمومين ، بل هم من الشعراء الممدوحين . قال ابن كثير لما نزل قوله - تعالى - { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون وقالوا . قد علم الله - تعالى - أنا شعراء ، فتلا عليهم النبى صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } قال أنتم . { وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } قال أنتم { وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال أنتم " . فالشعراء منهم المذمومون وهم الذين فى كل واد يهيمون ويقولون مالا يفعلون … ومنهم الممدوحون وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا . والشعر فى ذاته كلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، فخذ الحسن ، واترك القبيح . وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا يتعلق بتفسير هذه الآيات التى تحدثت عن الشعراء فارجع إليه إن شئت . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } . والمنقلب المرجع والمصير ، وهو مفعول مطلق . أى ينقلبون أى انقلاب والجملة الكريمة مشتملة على أشد ألوان التهديد والوعيد للظالمين . قال القرطبى ومعنى { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } أى مصير يصيرون ، وأى مرجع يرجعون ، لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال هو فيها ، إلى حال كان عليها ، فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا . وقال الإِمام ابن كثير والصحيح أن هذه الآية عامة فى كل ظالم … وعن عائشة - رضى الله عنها - قالت كتب أبى وصيته من سطرين بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبى قحافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهى الفاجر ، ويصدق الكاذب . إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظنى به ، ورجائى فيه ، وإن يظلم ويبدل فلا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .