Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 76-84)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال القرطبى قوله - تعالى - { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } لما قال - تعالى - { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } بين أن قارون أوتيها واغتر بها . ولم تعصمه من عذاب الله ، كما لم تعصم فرعون ولستم - أيها المشركون - بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه . قال النخعى وقتادة وغيرهما كان قارون ابن عم موسى … وقيل كان ابن خالته … وقوله { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } من البغى وهو مجاوزة الحد فى كل شىء . يقال بغى فلان على غيره بغيا ، إذا ظلمه واعتدى عليه . وأصله من بغى الجرح ، إذا ترامى إليه الفساد . والمعنى إن قارون كان من قوم موسى ، أى من بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى كما أرسل إلى فرعون وقومه . { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } أى فتطاول عليهم ، وتجاوز الحدود فى ظلمهم وفى الاعتداء عليهم . ولم يحدد القرآن كيفية بغيه أو الأشياء التى بغى عليهم فيها ، للإِشارة إلى أن بغيه قد شمل كل ما من شأنه أن يسمى بغيا من أقوال أو أفعال . وقوله - تعالى - { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } بيان لما أعطى الله - تعالى - لقارون من نعم . والكنوز جمع كنز وهو المال الكثير المدخر ، و { مَآ } موصولة . وهى المفعول الثانى لآتينا . وصلتها { إِنَّ } وما فى حيزها . وقوله { مَفَاتِحَهُ } جمع مفتح - بكسر الميم وفتح التاء - وهو الآلة التى يفتح بها - أو جمع مفتح - بفتح الميم والتاء - بمعنى الخزائن التى تجمع فيها الأموال . وهو - أى لفظ مفاتحه - اسم إن ، والخبر { لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } . وقوله { لَتَنُوءُ } . أى لتعجز أو لتثقل . يقال ناء فلان بحمل هذا الشىء ، إذا أثقله حمله وأتعبه والباء فى قوله { بِٱلْعُصْبَةِ } للتعدية والعصبة الجماعة من الناس من غير تعيين بعدد معين ، سموا بذلك لأنهم يتعصب بعضهم لبعض ومنهم من خصها فى العرف ، بالعشرة إلى الأربعين . والمعنى وآتينا قارون - بقدرتنا وفضلنا - من الأموال الكثيرة ، ما يثقل حمل مفاتح خزائنها ، العصبة من الرجال الأقوياء ، بحيث تجعلهم شبه عاجزين عن حملها . قال صاحب الكشاف وقد بولغ فى ذكر ذلك - أى فى كثرة أمواله - بلفظ الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة . والمراد بالفرح فى قوله - سبحانه - { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } البطر والأشر والتفاخر على الناس ، والاستخفاف بهم واستعمال نعم الله - تعالى - فى السيئات والمعاصى . وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } تعليل للنهى عن الفرح المذموم . أى لقد أعطى الله - تعالى - قارون نعما عظيمة ، فلم يشكر الله عليها ، بل طغى وبغى ، فقال له العقلاء من قومه لا تفرح بهذا المال الذى بين يديك فرح البطر الفخور ، المستعمل لنعم الله فى الفسوق والمعاصى ، فإن الله - تعالى - لا يحب من كان كذلك . ثم قالوا له - أيضا - على سبيل النصح والإِرشاد { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أى واطلب فيما أعطاك الله - تعالى - من أموال عظيمة ، ثواب الدار الآخرة ، عن طريق إنفاق جزء من مالك فى وجوه الخير ، كالإِحسان إلى الفقراء والمحتاجين . { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } أى اجعل مالك زادا لآخرتك ، ولا تترك التنعم بنعم الله فى دنياك ، فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذى حق حقه . { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أى وأحسن إلى عباد الله بأن تترك البغى عليهم ، وتعطيهم حقوقهم . مثل ما أحسن الله إليك بنعم كثيرة . { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } أى ولا تطلب الفساد فى الأرض عن طريق البغى والظلم { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } كما أنه - سبحانه - لا يحب الفرحين المختالين . وهكذا ساق العقلاء من قوم قارون النصائح الحكيمة له ، والتى من شأن من اتبعها أن ينال السعادة فى دنياه وأخراه . ولكن قارون قابل هذه النصائح ، بالغرور وبالإِصرار على الفساد والجحود فقال كما حكى القرآن عنه { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } . أى قال قارون فى الرد على ناصحيه إن هذا المال الكثير الذى تحت يدى ، إنما أوتيته بسبب علمى وجدى واجتهادى … فكيف تطلبون منى أن أتصرف بمقتضى نصائحكم ؟ لا . لن أتبع تلك النصائح التى وجهتموها إلى ، فإن هذا المال مالى ولا شأن لكم بتصرفى فيه ، كما أنه لا شأن لكم بتصرفاتى الخاصة ، ولا بسلوكى فى حياتى التى أملكها . وهذا القول يدل على أن قارون ، كان قد بلغ الذروة فى الغرور والطغيان وجحود النعمة . ولذا جاءه التهديد المصحوب بالسخرية منه ومن كنوزه ، فى قوله - تعالى - { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } . والمقصود بهذا الاستفهام التعجيب من حاله ، والتأنيب له على جهله وغروره . أى أبلغ الغرور والجهل بقارون أنه يزعم أن هذا المال الذى بين يديه جمعه بمعرفته واجتهاده ، مع أنه يعلم - حق العلم عن طريق التوراة وغيرها ، أن الله - تعالى - قد أهلك من قبله . من أهل القرون السابقة عليه من هو أشد منه فى القوة ، وأكثر منه فى جمع المال واكتنازه . فالمقصود بالجملة الكريمة تهديده وتوبيخه على غروره وبطره . وقوله - سبحانه - { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } جملة حالية . أى والحال أنه لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون سؤال استعتاب واستعلام ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شىء . وإنما يسألون - كما جاء فى قوله - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } - سؤال توبيخ وإفضاح . فالمراد بالنفى فى قوله - سبحانه - { وَلاَ يُسْأَلُ … } سؤال الاستعلام والاستعتاب ، والمراد بالإِثبات فى قوله { فَلَنَسْأَلَنَّ } أو فى قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُم } سؤال التقريع والتوبيخ . أو نقول إن فى يوم القيامة مواقف ، فالمجرمون قد يسألون فى موقف ، ولا يسألون فى موقف آخر ، وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التى تنفى السؤال والآيات التى تثبته . ثم حكى القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر غرور قارون وبطره فقال { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } وما بينهما اعتراض . والزينة اسم ما يتزين به الإِنسان من حلى أو ثياب أو ما يشبهها . أى قال ما قال قارون على سيبل الفخر والخيلاء ، ولم يكتف بهذا القول بل خرج على قومه فى زينة عظيمة . وأبهة فخمة ، فيها ما فيها من ألوان الرياش والخدم . وقد ذكر بعض المفسرين روايات متعددة ، فى زينته التى خرج فيها ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها ، ويكفى أن نعلم أنها زينة فخمة ، لأنه لم يرد نص فى تفاصيلها . وأمام هذه الزينة الفخمة التى خرج فيها قارون ، أنقسم الناس إلى فريقين ، فريق استهوته هذه الزينة ، وتمنى أن يكون له مثلها ، وقد عبر القرآن عن هذا الفريق بقوله { قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . أى خرج قارون على قومه فى زينته ، فما كان من الذين يريدون الحياة الدنيا وزخارفها من قومه ، إلا أن قالوا على سبيل التمنى والانبهار … يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون من مال وزينة ورياش ، إنه لذو حظ عظيم ، ونصيب ضخم ، من متاع الدنيا وزينتها . هكذا قال الذين يريدون الحياة الدنيا . وهم الفريق الأول من قوم قارون . أما الفريق الثانى المتمثل فى أصحاب الإِيمان القوى ، والعلم النافع ، فقد قابلوا أصحاب هذا القول بالزجر والتعنيف ، وقد حكى القرآن ذلك عنهم فقال { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } . وكلمة { وَيْلَكُمْ } أصلها الدعاء بالهلاك ، وهى منصوبة بمقدر . أى ألزمكم الله الويل . ثم استعملت فى الزجر والتعنيف والحض على ترك ما هو قبيح ، وهذا الاستعمال هو المراد هنا . أى وقال الذين أوتوا العلم النافع من قوم قارون . لمن يريدون الحياة الدنيا كفوا عن قولكم هذا ، واتركوا الرغبة فى أن تكونوا مثله ، فإن { ثَوَابُ ٱللَّهِ } فى الاخرة { خَيْرٌ } مما تمنيتموه ، وهذا الثواب إنما هو { لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } فلا تتمنوا عرض الدنيا الزائل . وهذه الثوبة العظمة التى أعدها الله - تعالى - لمن آمن وعمل صالحا { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } أى لا يظفر بها ، ولا يوفق للعمل لها { إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } على طاعة الله - تعالى - وعلى ترك المعاصى والشهوات . قال صاحب الكشاف والراجع فى { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } للكلمة التى تكلم بها العلماء ، أو للثواب ، لأه فى معنى المثوبة أو الجن أو للسيرة والطريقة وهى الإِيمان والعمل الصالح . ثم جاءت بعد ذلك العقوبة لقارون ، بعد أن تجاوز الحدود فى البغى والفخر والإِفساد فى الأرض . وقد حكى سبحانه - هذه العقوبة فى قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } . وقوله - تعالى - { فَخَسَفْنَا } من الخسف وهو النزول فى الأرض ، يقال خسف المكان خسفا - من باب ضرب - إذا غار فى الأرض . ويقال خسف القمر ، إذا ذهب ضوؤه ، وخسف الله بفلان الأرض ، إذا غيبه فيها . قال ابن كثير لما ذكر الله - تعالى - اختيال قارون فى زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت فى الصحيح - عند البخارى من حديث الزهرى عن سالم - أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " . أى تمادى قارون فى بغيه ، ولم يستمع لنصح الناصحين ، فغيبناه فى الأرض هو وداره ، وأذهبناهما فيها إذهابا تاما . { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أى فما كان لقارون من جماعة أو عصبة تنصره من عذاب الله ، بأن تدفعه عنه ، أو ترحمه منه . { وَمَا كَانَ } قارون { مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } بل كان من الأذلين الذين تلقوا عقوبة الله - تعالى - باستسلام وخضوع وخنوع ، دون أن يستطيع هو أو قومه رد عقوبة الله - تعالى - . ثم - بين - سبحانه - ما قاله الذين كانوا يتمنون أن يكونوا مثل قارون فقال - تعالى - { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } . ولفظ " وى " اسم فعل بمعنى أعجب ، ويكون - أيضا - للتحسر والتندم ، وكان الرجل من العرب إذا أراد أن يظهر ندمه وحسرته على أمر فائت يقول وى . وقد يدخل هذا اللفظ على حرف " كأن " المشددة - كما فى الآية - وعلى المخففة . قال الجمل ما ملخصه قوله { وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ } فى هذا اللفظ مذاهب أحدها أن { وى } كلمة برأسها ، وهى اسم فعل معناها أعجب ، أى أنا ، { والكاف } للتعليل ، { وأن } وما فى حيزها مجرورة بها ، أى أعجب لأن الله - تعالى - يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . … وقياس هذا القول أن يوقف على " وى " وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائى . الثانى أن كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب معناه وصارت للخبر واليقين ، وهذا - أيضا - يناسبه الوقف على { وى } . الثالث أن " ويك " كلمة برأسها ، والكاف حرف خطاب ، و " أن " معمولة لمحذوف . أى أعلم أن الله يبسط … وهذا يناسب الوقف على { ويك } وقد فعله أبو عمرو . الرابع أن أصل الكلمة ويلك ، فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف - أيضا - كما فعل أبو عمرو . الخامس أن { وَيْكَأَنَّ } كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها ألم تر … ولم يرسم فى القرآن إلا { وَيْكَأَنَّ } و { وَيْكَأَنَّهُ } متصلة فى الموضعين … ووصل هذه الكلمة عند القراءة لا خلاف بينهم فيه . والمعنى وبعد أن خسف الله - تعالى - الأرض بقارون ومعه داره ، أصبح الذين تمنوا أن يكونوا مثله { بِٱلأَمْسِ } أى منذ زمان قريب ، عندما خرج عليهم فى زينته ، أصبحوا يقولون بعد أن رأوا هلاكه { وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أى صاروا يقولون ما أعجب قدرة الله - تعالى - فى إعطائه الزرق لمن يشاء من عباده وفى منعه عمن يشاء منهم ، وما أحكمها فى تصريف الأمور ، وما أشد غفلتنا عندما تمنينا أن نكون مثل قارون ، وما أكثر ندمنا على ذلك . لولا أن الله - تعالى - قد منّ علينا ، بفضله وكرمه لخسف بنا الأرض كما خسفها بقارون وبداره . { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } أى ما أعظم حكمة الله - تعالى - فى إهلاكه للقوم الكافرين ، وفى إمهاله لهم ثم يأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر . ثم ختم - سبحانه - قصة قارون ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف فقال { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } . واسم الإِشارة { تِلْكَ } مبتدأ ، والدار الآخرة صفة له ، ونجعلها … خبره ، وجاءت الإِشارة بهذه الصيغة المفيدة للبعد ، للإِشعار بعظم هذه الدار وعلو شأنها . أى تلك الدار الآخرة وما فيها من جنات ونعيم ، نجعلها خالصة لعبادنا الذين لا يريدون بأقوالهم ولا بأفعالهم { عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } أى تطاولا وتعاليا فيها { وَلاَ فَسَاداً } أى ظلما أو بغيا أو عدوانا على أحد . { وَٱلْعَاقِبَةُ } الطيبة الحسنة ، إنما هى { لِلْمُتَّقِينَ } الذين صانوا أنفسهم عن كل سوء وقبيح . { مَن جَآءَ } فى دنياه { بِٱلْحَسَنَةِ } أى بالأعمال الحسنة { فَلَهُ } فى مقابلها عندنا بفضلنا وإحساننا { خَيْرٌ مِّنْهَا } أى فله عندنا خير مما جاء به من حسنات ، بأن نضاعفها ، وتثيبه عليها ثوابا عظيما لا يعلم مقداره أحد . { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ } الأعمال { ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى فلا يجوزون إلا الجزاء الذى يناسب أعمالهم فى القبح والسوء . وهكذا يسوق لنا القرآن فى قصصه العبر والعظات ، لقوم يتذكرون ، فمن قصة قارون نرى أن كفران النعم يؤدى إلى زوالها ، وأن الغرور والبغى والتفاخر كل ذلك يؤدى إلى الهلاك ، وأن خير الناس من يبتغى فيما آتاه الله من نعم ثواب الآخرة ، دون أن يهمل نصيبه من الدنيا ، وأن العاقل هو من يستجيب لنصح الناصحين ، وأن الناس فى كل زمان ومكان ، منهم الذين يريدون زينة الحياة الدنيا ، ومنهم الأخيار الأبرار الذين يفضلون ثواب الآخرة ، على متع الحياة الدنيا ، وأن العاقبة الحسنة قد جعلها - سبحانه - لعباده المتقين ، وأنه - سبحانه - يجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببشارة النبى صلى الله عليه وسلم ، وبتثبيت قلبه ، وبأمره بالمضى فى تبليغ رسالة ربه بدون خوف أو وجل … فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ … } .