Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 36-40)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً … } معطوف على مقدر محذوف ، لدلالة ما قبله عليه . ومدين اسم للقبيلة التى تنسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - . وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى معان بين حدود الحجاز والشام . وقد أرسل الله - تعالى - إليهم شعيبا - عليه السلام - ليأمرهم بعبادة الله - تعالى - وحده ، ولينهاهم عن الرذائل التى كانت منتشرة فيهم ، والتى من أبرزها التطفيف فى المكيال والميزان . والمعنى وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ، وإبراهيم إلى قومه ، أرسلنا إلى أهل مدين ، ورسولنا شعيبا - عليه السلام - . { فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أى فقال لهم ناصحا ومرشدا ، الكلمة التى قالها كل نبى لأمته يا قوم اعبدوا الله - تعالى - وحده ، واتركوا ما أنتم عليه من شرك . وقال لهم - أيضا وارجوا النجاة من أهوال يوم القيامة ، بأن تستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح ، ولا تعثوا فى الأرض مفسدين ، فإن الإِفساد فى الأرض ليس من شأن العقلاء ، وإنما هو من شأن الجهلاء الجاحدين لنعم الله - تعالى - . يقال عَثِى فلان فى الأرض يعثو ويعثى - كقال وتعب - ، إذا ارتكب اشد أنواع الفساد فيها . فأنت ترى أن شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - كما جاء فى الحديث الشريف ، قد أمر قومه بإخلاص العبادة لله ، وبالعمل الصالح الذى ينفعهم فى أخراهم ، ونهاهم عن الإِفساد فى الأرض ، فماذا كان موقفهم منه ؟ كان موقفهم منه التكذيب والإِعراض ، كما قال - سبحانه - { فَكَذَّبُوه } أى فيما أمرهم به ، وفيما نهاهم عنه . { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } أى فأهلكهم الله - تعالى - بسبب تكذيبهم لنبيهم بالرجفة ، وهى الزلزلة الشديدة . رجفت الأرض ، إذا اضطربت اضطرابا شديدا . ولا تعارض هنا بين قوله - تعالى - { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } وبين قوله - سبحانه - فى سورة الحجر { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } لأنه يجوز أن الله - تعالى - جعل لإِهلاكهم سببين الأول أن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحة شديدة أذهلتهم ، ثم رجفت بهم الأرض فأهلكتهم . وبعضهم قال إن الرجفة والصيحة بمعنى واحد . وقوله - تعالى - { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } بيان لما آل إليه أمرهم بعد هلاكهم . والمراد بدارهم مساكنهم التى يسكنونها ، أو قريتهم التى يعيشون بها وقوله { جَاثِمِينَ } من الجثوم ، وهو للناس والطيور بمنزلة البروك للإِبل . يقال جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم - من باب ضرب - ، إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه . أى فأصحبوا فى مساكنهم هامدين ميتين لا تحس لهم حركة ، ولا تسمع لهم ركزا . ثم أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى مصارع عاد وثمود فقال { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } . وعاد هم قوم هود - عليه السلام - وكانوا يسكنون بالأحقاف فى جنوب الجزيرة العربية ، بالقرب من حضرموت . وثمود هم قوم صالح - عليه السلام - وكانت مساكنهم بشمال الجزيرة العربية ، وما زالت مساكنهم تعرف حتى الآن بقرى صالح . أى وأهلكنا عادا وثمود بسبب كفرهم وعنادهم ، كما أهلكنا غيرهم ، والحال أنه قد تبين لكم - يا أهل مكة - وظهر لكم بعض مساكنهم ، وانتم تمرون عليهم فى رحلتى الشتاء والصيف . فقوله - سبحانه - { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } المقصود منه غرس العبرة والعظة فى نفوس مشركى مكة ، عن طريق المشاهدة لآثار المهلكين ، فإن مما يحمل العقلاء على الاعتبار ، مشاهدة آثار التمزيق والتدمير ، بعد القوة والتمكين . { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } السيئة . بسبب وسوسته وتسويله ، { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } الحق ، وعن الطريق المستقيم . { وَكَانُواْ } أى عادا وثمود { مُسْتَبْصِرِينَ } أى وكانت لهم عقول يستطيعون التمييز بها بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، وإنما استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغى على الرشد ، فأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر . وقوله - تعالى - { مُسْتَبْصِرِينَ } من الاستبصار بمعنى التمكن من تعقل الأمور . وإدراك خيرها من شرها ، وحقها من باطلها . ثم أشار - سبحانه - إلى ما حل بقارون وفرعون وهامان فقال { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } أى وأهلكنا - أيضا - قارون ، وهو الذى كان من قوم موسى فبغى عليهم ، كما أهلكنا فرعون الذى قال لقومه { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } وهامان الذى كان وزيرا لفرعون وعونا له فى الكفر والظلم والطغيان . قال الآلوسى وتقديم قارون ، لأن المقصود تسلية النبى صلى الله عليه وسلم فيما لقى من قومه لحسدهم له ، وقارون كان من قوم موسى - عليه السلام - وقد لقى منه ما لقى . أو لأن حال قارون أوفق بحال عاد وثمود ، فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ، ولكنه لم يفده الاستبصار شيئا ، كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا … ثم بين - سبحانه - ما جاءهم به موسى - عليه السلام - وموقفهم منه فقال { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } أى جاءهم جميعا بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه . { فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أى فاستكبروا قارون وفرعون وهامان فى الأرض . وأبوا أن يمؤمنوا بموسى ، بل وصوفه بالسحر وبما هو برئ منه . { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } اى وما كانوا بسبب استكبارهم وغرورهم هذا ، هاربين أو نجاين من قضائنا ، فيهم ، ومن إهلاكنا لهم . فقوله { سَابِقِينَ } من السبق ، بمعنى التقدم على الغير . يقال فلان سبق طالبه ، إذا تقدم عليه دون أن يستطيع هذا الطالب إدراكه . والمراد أن قارون وفرعون وهامان ، لم يستطيعوا - رغم قوتهم وغناهم - أن يفلتوا من عقابنا ، بل أدركهم عذابنا إدراكا تاما فأبادهم وقضى عليهم . ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء المكذبين ، ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف ، فقال { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } . أى فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح ، وكقارون وفرعون وهامان وأمثالهم كلا من هؤلاء الظالمين أخذناه وأهلكناه بسبب ذنوبه التى اصر عليها دون أن يرجع عنها . { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أى فمن هؤلاء الكافرين من أهلكناه ، بأن أرسلنا عليه ريحا شديدة رمته بالحصباء فأهلكته . قال القرطبى قوله { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } يعنى قوم لوط . والحاصب ريح يأتى بالحصباء ، وهى الحصى الصغار . وتستعمل فى كل عذاب . { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ } كما حدث لقوم صالح وقوم شعيب - عليهما السلام - . { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ } وهو قارون . { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه . { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أى وما كان الله - تعالى - مريدا لظلمهم ، لأنه - سبحانه - اقتضت رمته وحكمته ، أن لا يعذب أحدا بدون ذنب ارتكبه . { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى ما ظلم الله - تعالى - هؤلاء المهلكين ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، وعرضوها للدمار ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واتباعهم للهوى والشيطان . وبذلك نرى الآيات قد قصت على النسا مصارع الغابرين ، الذين كذبوا الرسل ، وحاربوا دعوة الحق ، ليكون فى هذا القصص عبرة للمعتبرين ، وذكرى للمتذكرين . ثم ضرب الله مثلا ، لمن يتخذ آلهة من دونه وتوعد من يفعل ذلك بأشد أنواع العذاب ، فقال - تعالى - { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ … إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } .