Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 61-69)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } بيان لما كان عليه مشركو العرب من اعتراف بأن المستقل بخلق هذا الكون هو الله - تعالى - . أى ولئن سألت - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين ، من الذى أوجد هذه السماوات وهذه الأرض ، ومن الذى ذلل وسخر لمنفعتكم الشمس والقمر ، ليقولن بدون تردد الله - تعالى - هو الذى فعل ذلك بقدرته . وقوله - سبحانه - { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } تعجيب من تناقضهم فى أفعالهم ، ومن انحراف فى تفكيرهم ، ومن تركهم العمل بموجب ما تقتضيه أقوالهم . أى إذا كنتم معترفين بأن الله وحده هو الخالق للسماوات والأرض . المسخر للشمس والقمر ، فلماذا أشركتم معه فى العبادة آلهة آخرى ؟ ولماذا تنصرفون عن الإِقرار بوحدانيته - عز وجل - ؟ ثم بين - سبحانه - أن الأرزاق جميعها بيده ، يوسعها لمن يشاء ويضيقها على من يشاء فقال { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ … } . والضمير فى قوله { لَهُ } يعود على { مِنْ } على حد قولك عندى درهم ونصفه . أى ونصف درهم آخر . أى الله - تعالى - وحده وهو الذى يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه عليه من عباده ، وهو وحده الذى يضيق الرزق على من يشاء أن يضيقه عليه من عباده . لأنه - سبحانه - لا يسأل عما يفعل ، وأفعاله كلها خاضعة لمشيئته وحكمته ، وكل شئ عنده بمقدار . ويجوز أن يكون المعنى الله - تعالى - وحده هو الذى بقدرته أن يوسع الرزق لمن يشاء من عباده تارة ، وأن يضيقه عليهم تارة أخرى . فعلى المعنى الأول يكون البسط فى الرزق لأشخاص ، والتضييق على آخرين ، وعلى المعنى الثانى يكون البسط والتضييق للأشخاص أنفسهم ولكن فى أوقات مختلفة . والله - تعالى - قادر على كل هذه الأحوال ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ . { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم ما فيه صلاح عباده وما فيه فسادهم ، ويعلم من يستحق أن يبسط له فى رزقه ، ومن يستحق التضييق عليه فى رزقه . ثم أكد - سبحانه - للمرة الثانية اعتراف هؤلاء المشركين بقدرة الله - تعالى - فقال { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أى ماء كثيراً { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } أى فجعل الأرض بسبب نزول الماء عليها تصبح خضراء بالنبات بعد أن كانت جدباء قاحلة . لئن سألتهم من فعل ذلك { لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } هو الذى فعل ذلك . { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } أى قل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الثناء على الله - تعالى - الحمد لله الذى أظهر حجته ، وجعلهم ينطقون بأنك على الحق المبين ، ويعترفون بأن إشراكهم إنما هو من باب العناد والجحود . وقوله - سبحانه - { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إضراب عما هم عليه من انحراف وتناقض ، إلى بيان حقيقة حالهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما يعتريه بسببهم من حزن . أى بل أكثرهم لا يعقلون شيئاً مما يجب أن يكون عليه العقلاء من فهم سليم للأمور ، ومن العمل بمقتضى ما تنطق به الألسنة . وفى التعبير بأكثرهم ، إنصاف لقلة منهم عقلت الحق فاتبعته ، وآمنت به وصدقته ، ثم بين - سبحانه - هو إن هذه الحياة الدنيا ، بالنسبة للدار الآخرة فقال { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . واللهو اشتغال الإِنسان بما لا يعنيه ولا يهمه . أو هو الاستمتاع بملذات الدنيا . واللعب العبث . وهو فعل لا يقصد به مقصد صحيح . أى أن هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من حطام ، تشبه فى سرعة انقضائها وزوال متعها ، الأشياء التى يلهو بها الأطفال ، يجتمعون عليها وقتاً ، ثم ينفضون عنها . أما الدار الآخرة ، فهى دار الحياة الدائمة الباقية ، التى لا يعقبها موت ، ولا يعتريها فناء ولا انقضاء . ولفظ " الحيوان " مصدر حى . سمى به ذو الحياة ، والمراد به هنا نفس الحياة الحقة . وقوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى لو كانوا يعلمون حق العلم ، لما آثروا متع الدنيا الفانية على خيرات الآخرة الباقية . ثم بين - سبحانه - حالهم عندما يحيط بهم البلاء فقال - تعالى - { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ … } أى أن من صفات هؤلاء الجاحدين ، أنهم إذا ركبوا السفن ، وجرت بهم بريح طيبة وفرحوا بها ، ثم جاءتهم بعد ذلك ريح عاصف ، وظنوا ان الغرق قد اقترب منهم ، تضرعوا إلى الله - تعالى - مخلصين له العبادة والدعاء . { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ } بفضله وكرمه ، وأنقذهم من الغرق المحقق { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } مع الله - تعالى - غيره فى العبادة والطاعة . وقد فعلوا ذلك { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } من نعم ، وبما منحناهم من فضل ورحمة . { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } بمتع هذه الحياة وزينتها إلى حين { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } عما قريب عاقبة هذا الكفران لنعم الله ، وهذا التمتع بزينة الحياة الدنيا دون أن يعلموا شيئاً ينفعهم فى أخراهم . قال الآلوسى قوله { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } الظاهر أن اللام فى الموضعين لام كى ، أى يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم ، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام ، فالشرك سبب لهذا الكفران . وأدخلت لام كى على مسببه ، لجعله كالغرض لهم منه ، فهى لام العاقبة فى الحقيقة . وقيل اللام فيهما لام الأمر ، والأمر بالكفران والتمتع ، مجاز فى التخلية والخذلان والتهديد ، كما تقول عند الغضب على من يخالفك " افعل ما شئت " . ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة الحرم الآمن ، الذى يعيشون فى جواره مطمئنين ، فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } . أى أجهل هؤلاء قيمة النعمة التى هم فيها ، ولم يدركوا ويشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرماً آمناً ، يأمنون فيه على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم ، والحال أن الناس من حولهم يقتل بعضهم بعضاً ، ويعتدى بعضهم على بعض بسرعة وشدة . والتخطف الأخذ بسرعة . قال صاحب الكشاف كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضاً ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارون فيها آمنون لا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله بهذه النعمة الخاصة بهم " . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } للتعجب من حالهم ، وللتوبيخ لهم على هذا الجحود والكفر لنعم الله - تعالى - أى أفبعد هذه النعمة الجليلة يؤمنون بالأصنام وبنعمة الله التى تستدعى استجابتهم للحق يكفرون . فالآية الكريمة قد اشتملت على ما لا يقادر قدره ، من تعجب وتوبيخ وتقريع . وقوله - تعالى - { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } أى لا أحد أشد ظلماً ممن افترى على الله كذبا ، بأن زعم بأن لله - تعالى - شريكاً ، أو كذب بالحق الذى جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أعرض عنه ، وأبى أن يستمع إليه . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } للتقرير ، والمثوى المكان الذى يثوى فيه الشخص ، ويقيم به ، ويستقر فيه . أى أليس فى جهنم مأوى ومكاناً يستقر فيه هؤلاء الكافرين لنعم الله - تعالى - ؟ بل إن فيها مكاناً لاستقرارهم ، وبئس المكان ، فإنها ساءت مستقرا ومقاما . ثم ختم - سبحانه - السروة الكريمة بقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } . أى هذا الذى ذكرناه سابقاً من سوء مصير ، هو للمشركين الذين يؤمنون بالباطل ويتركون الحق ، أما الذين بذلوا جهدهم فى سبيل إعلاء ديننا ، وقدموا أنفسهم وأموالهم فى سبيل رضائنا وطاعتنا ، وأخلصوا لنا العبادة والطاعة ، فإننا لن نتخلى عنهم ، بل سنهديهم إلى الطريق المستقيم ، ونجعل العاقبة الطيبة لهم ، فقد اقتضت رحمتنا وحكمتنا أن نكون مع المحسنين فى أقوالهم وفى أفعالهم ، وتلك سنتنا التى لا تتخلف ولا تتبدل . وبعد فهذا تفسير لسروة " العنكبوت " نسأل - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .