Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 14-17)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فأنت ترى فى هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما من الله - تعالى - لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها ، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات ، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات . وقوله { زُيِّنَ } من التزيين وهو تصيير الشىء زينا أى حسنا . والزينة هى ما فى الشىء من المحاسن التى ترغب الناظرين فى اقتنائه . قال الراغب " والزينة بالقول المجمل ثلاث زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة ، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة ، وزينة خارجية كالمال والجاه … وقد نسب الله التزيين فى مواضع إلى نفسه كما فى قوله - تعالى - { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ونسبه فى مواضع إلى الشيطان كما فى قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } وذكره فى مواضع غير مسمى فاعله كما فى قوله - تعالى - { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ } . والشهوات جمع شهوة ، وهى ثوران النفس وميلها نحو الشئ المشتهى . والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين … إلخ . وعبر عنها بالشهوات للإِشارة - كما يقول الآلوسي - إلى ما ركز فى الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض ما تشتهى ؟ فقال أشتهى أن أشتهى . أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففى ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله ، ثم قال والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها فى القلوب ، وهو بهذا المعنى مضاف إليه - تعالى - حقيقة لأنه لا خالق إلا هو . ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثانى مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها " . ثم بين - سبحانه - أهم المشتهيات التى يحبها الناس ، وتهفو إليها قلوبهم ، وترغب فيها نفوسهم ، فأجملها فى أمور ستة . أما أولها فقد عبر عنه القرآن بقوله " من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شىء فطرى فى الطبيعة الإنسانية ، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى العلاقة بين الرجل والمرأة { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال تعالى - فى آية ثانية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شىء فى سبيل الوصول إلى المرأة التى يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول " ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء " ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة . و { مِنَ } فى قوله { مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ } بيانية ، وهى مع مجرورها فى محل نصب على الحال من الشهوات . واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغنى عن ذكر الطرفين معاً ، وما يستفاد بالإِشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصاً فى هذا المجال الذى يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب فى النفوس ، ولأن المرأة فى هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة . وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذى يطلبها لا هى التى تطلبه . وأما ثانى المشتهيات فقد عبر عنه القرآن بقوله { وَٱلْبَنِينَ } جمع ابن ، وهو معطوف على ما قبله ، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء ، واكتفى بذكر البنين ، لأنهم موضع الفخر فى العادة وحب الأولاد طبيعة فى النفس البشرية فهم ثمرات القلوب ، وقرة الأعين ومهوى الأفئدة ، ومطمح الآمال ، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } وسيدنا زكريا يقول { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } والإِنسان فى سبيل حبه لأولاده يضحى براحته ، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام ، وقد يرتكب بعض الأعمال التى لا يريد ارتكابها إرضاء لهم ، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضى ذلك . وصدق الله إذ يقول { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول " الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة " أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه ، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغى أن ينفق فيه إيثاراً لهم بالمال ، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه . أما الأمر الثالث من المشتهيات فقد عبر عنه القرآن بقوله { وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } والقناطير جمع قنطار ، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه ، تقول العرب قنطرت الشىء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها . قال الفخر الرازى " القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به فى دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون إنه وزن لا يحد . واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده . فعن ابن عباس القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية " . ولفط { ٱلْمُقَنْطَرَةِ } مأخوذ من القنطار . ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أى والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنظاراً قنطاراً كقولهم دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة . وقوله { مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } بيان للقناطير ، وهو فى موضع الحال هنا . والمراد أن الإِنسان محب للمال حباً شديداً ، قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } وقال تعالى - { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } وفى الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً . ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . ويتوب الله على من تاب " والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة . وقالت السيدة - عائشة - رضى الله عنها - " رأيت ذا المال مهيبا ، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت " إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال " . وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين ، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء " وصفة المالكية هى القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين " . وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى فى قوله - تعالى - { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } . ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه ، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء . ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل ، فهو نظير راكب ، وطائر وطير . وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال فى مشيتها . والمسومة أى الراعية فى المروج والمسارح . يقال سوم ماشيته إذا أرسلها فى المرعى . أو المطهمة الحسان ، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة . والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة ، مهما تفنن البشر فى اختراع صنوف من المراكب براً وبحراً فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة . ويقتنونها للركوب والمسابقات … { وَٱلأَنْعَامِ } جمع نعم ، وهى الإِبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإِبل خاصة فإنها غلبت عليها . والأنعام فيها زينة . والإنسان فى حاجة شديدة إليها فى مركبه ومطعمه وغير ذلك . قال - تعالى - { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } و { وَٱلْحَرْثِ } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث . والمراد به المزروع سواء أكان حبوباً أم بقلا ، أم ثمراً إذ من هذه الأشياء يتخذ الإِنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته . تلك هى أهم المشتهيات فى هذه الحياة إلى نفس الإِنسان قد جمعها القرآن فى آية واحدة ، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها فى الاحتياج إليها والتلذذ بها ، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية ، أم مالية ، أم غير ذلك من ألوان المتع ، ومن مستلزمات الحياة . وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } . واسم الإِشارة { ذٰلِكَ } يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التى سبق الحديث عنها ، والمآب مصدر ميمى بوزن مفعل ، من آب . كقال - إياباً وأوباً ومآباً ، إذا رجع . وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفاً مثل مقال . أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة ، ومطلب الناس الذى يستمتعون به ، … فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التى جبل الإِنسان على الميل إليها ، وصياغة الفعل للمجهول { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } للإِشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز فى الفطرة الإِنسانية منذ أوجد الله الإِنسان فى هذه الحياة الدنيا . وهذه المشتهيات ليست خسيسة فى ذاتها ، ولا يقصد الإِسلام إلى تخسيسها فى ذاتها أو إلى التنفير منها ، وإنما الإِسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا فى طلبها ، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة ، وأن يضعوها فى مواضعها المشروعة ، وأن يشكروا الله عليها ، وألا يجعلوها غاية مقصدهم فى هذه الحياة إن الإِسلام لا يحارب الفطرة الإِنسانية التى تشتهى هذه الأشياء ، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الاشياء فى موضعها المناسب ، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل فى غير ما خلقها الله من أجله ، وبذلك يسعد الإِنسان فى دينه ودنياه وآخرته . وللإِمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه يخبر الله - تعالى - عما زين للناس فى هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد … فأما إذا كان القصد بهن الإِعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك … وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر … فيكون مذموما ، وتارة يكون للنفقة فى وجوه البر فيكون محموداً … وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون . وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإِسلام فهذه على صاحبها وزر . وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر . وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " والسكة النخل المصطف ، والمأبورة الملقحة ، . وفى الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم غرس أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه " . هذا ، وختام الآية الكريمة بقوله { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإِنسان فهى زوال ، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهى التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين فى الدارة الآخرة ، ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } . أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما ، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية ؟ والاستفهام للتقرير ، والمراد به التحقيق والتثبيت فى نفوس المخاطبين ، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا ، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم . وافتتح الكلام بكلمة { قُلْ } للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا التعبير بقوله { أَؤُنَبِّئُكُمْ } لأن الإِنباء معناه الخبر العظيم الشأن ، والتعبير بقوله { ذٰلِكُمْ } لاشتماله على الإِشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به ، والتعبير بقوله { بِخَيْرٍ } الذى يدل على الأفضلية ، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار . ثم بين - سبحانه - المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التى تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } . هذه هى اللذائذ والمتع التى أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه ، أى أدى ما أمره به ، وابتعد عما نهاه عنه . وأول هذه النعم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، وفى هذه الجنات مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وقوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ، خبر مقدم ، وقوله { جَنَّاتٌ } مبتدأ مؤخر ، وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } فى محل نصب على الحال من جنات . وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } صفة لجنات . وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله { مِّن ذٰلِكُمْ } وهذا هو المشهور عند العلماء . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ثم يبتدأ فيقال عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { عِندَ رَبِّهِمْ } ثم يبدأ فيقال جنات تجرى من تحتها الأنهار . قال ابن جرير وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فيكون مخرج ذلك مخرج الخير . وهو إبانة عن معنى الخير الذى قال أنبئكم به ، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير " . وثانى هذه النعم عبر عنه - سبحانه - بقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين فى تلك الجنات التى فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلوداً أبدياً ، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال . وثالث هذه النعم قوله - تعالى - { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } . والأزواج جمع زوجة وهى المرأة يختص بها الرجل . أى ولهم فى تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوى ، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل فى المرأة . ورابع هذه النعم قوله - تعالى - { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } وهذه النعمة هى أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق ، ومبدع الكون ، ومنشىء الوجود . وهو مصدر كالرضا ، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم . وقوله { مِّنَ ٱللَّهِ } صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . روى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة يوم القيامة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك ، فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول أنا اعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا يا ربنا وأى شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبداً " . هذه هى اللذائذ والمتع والنعم التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أى أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم . وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . ففى هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين . ثم حكى - سبحانه - أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال - تعالى - { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أى أن هذه الجنات وغيرها من أنواع النعم قد أعدها الله - تعالى - لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة فيقولون يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك فى كل ما جاء به من عندك ، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا فى أمرنا فأنت الغفار الرحيم ، { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أى جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين . وفى حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة { يَقُولُونَ } إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهى قليلة بجانب فضل الله عليهم ، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران ، والوقاية من النار ، وهذا شأن الأخيار من الناس . وقوله - سبحانه - { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } بدل أو عطف بيان من قوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ويجوز أن يكون فى محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل من أولئك المتقون ؟ فقيل هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا . … ويجوز أن يكون فى موضع نصب على المدح . ثم وصفهم - سبحانه - بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسى بهم فقال { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } . وفى كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم ، وإذعانهم للحق حق الإِذعان . فهم صابرون ، والصبر فى البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين ، وقد حث القرآن أتباعه على التحلى بهذه الصفة فى أكثر من سبعين موضعا . وهم صادقون ، والصدق من أكمل الصفات الإِنسانية وأشرفها ، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به فى كثير من آيات كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } وهم قانتون ، والقانت هو المداوم على طاعة الله - تعالى - غير متململ منها ولا متبرم بها ، ولا خارج على حدودها . فالقنوت يصور الإِذعان المطلق لرب العالمين . وهم منفقون أموالهم فى طاعة الله - تعالى - ، وبالطريقة التى شرعها وأمر بها . وهم مستغفرون بالأسحار . أى يسألون الله - تعالى - أن يغفر لهم خطاياهم فى كل وقت ، ولا سيما فى الأسحار . والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذى يكون قبل الفجر . روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك من ذا الذى يدعونى فأستجيب له ، من ذا الذى يسألنى فأعطيه ، من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر " . وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى ، والقلب فيه أجمع ، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول . وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التى يميل إليها الناس فى دنياهم بمقتضى فطرتهم ، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته ، متى استقاموا على طريقه ، واستجابوا لتعاليمه ، { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للمتقين ، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد ، وببيان أن الإِسلام هو الدين الذى ارتضاه الله - تعالى - للناس ، وأن من يعارض فى ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه . استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول { شَهِدَ ٱللَّهُ … } .