Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 26-27)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال القرطبي قال ابن عباس وأنس بن مالك " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع فى ملك فارس والروم . فأنزل الله هذه الآية . والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين . وكلمة { ٱللَّهُمَّ } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو " يا " جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين " يا " و " أل " وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه . والمعنى . قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق فى هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن ينازعك فى ذلك أى منازع . فكأن فى هذه الجملة الكريمة { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } دعاءين خاشعين أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { ٱللَّهُمَّ } أى يا الله ، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع . وأما الدعاء الثانى فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } أى يا مالك الملك ، وفى هذا النداء كل معانى الإِحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه . فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف . كما فى قوله { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى يا فاطر السماوات والأرض . ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التى تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } . أى أنت وحدك الذى تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف فى شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك . وعبر بالإِيتاء الذى هو مجرد الإِعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هى مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شىء زائل لا يدوم . والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت ، قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزوع منه الشىء كان متمسكا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته . والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك . قال الفخر الرازى وقوله { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة . وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز " . ومفعول المشيئة فى الجملتين محذوف أى تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه . أما الأمر الثانى الذى يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } . العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإِنسان من أن يغلب ، من قولهم أرض عزاز أى صلبة ، وتعزز اللحم اشتد وعز ، كأنه حصل فى عزاز يصعب الوصول إليه … والعزيز الذى يقهر ولا يغلب . وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق فى إيمانه ، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه ، قال - تعالى - { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا فى المال والجاه فقراء . أما الكافرون فهم أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار . والمعنى أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذى تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذاته فقال - تعالى - { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شىء قدير . وأل فى الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإِفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك ، وجملة " إنك على كل شىء قدير " تعليلية . قال صاحب الكشاف فإن قلت " كيف قال { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت لأن الكلام إنما وقع فى الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه " . ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فى ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } . الولوج فى الأصل الدخول ، والإِيلاج الإِدخال . يقال ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا . وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار فى الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب . أى أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل فى النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار فى الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً فى أعقاب النهار ، وتأتى بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب . ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } . قال الفخر الرازى ذكر المفسرون فيه وجوها . أحدها يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح . والثانى يخرج الحيوان - وهو حى - من النطفة - وهى ميتة - ، والدجاجة - وهى حية - من البيضة أو العكس . والثالث يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس ثم قال والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإِيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإِيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال { وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادرا هو الله الواحد القهار . ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيويا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ … } أى من المال والجاه والعلم " . أى أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أى رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر . ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } قال ابن كثير روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب فى هذه الآية { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شىء قَدِيرٌ } " . وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة فى ثوابه ، ورهبة من عقابه . وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك ، وأنه على كل شىء قدير ، عقب ذلك بنهى المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما ، فقال - تعالى - { لاَّ يَتَّخِذِ … } .