Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 8-9)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات . ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين فى العلم ، فهم يقولون { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ويقولون أيضاً { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } ويرى بعضهم أن هذا الكلام جديد ، وهو تعليم من الله - تعالى - لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها . والزيغ - كما أشرنا فى الآية السابقة - الميل عن الاستقامة ، والانحراف عن الحق ، يقال زاغ يزيغ أى مال ومنه زاغت الشمس إذا مالت . والمعنى نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه . وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذى لا يرضيك . وبين الضلال الذى يفسد القلوب ، ويعمى البصائر . { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } أى وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاماً وإحسانا تشرح بهما صدورنا . وتصلح بهما أحوالنا { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } لا غيرك ، فأنت مالك الملك وأنت القائل { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإِيمان فى قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه . قال الفخر الرازى - ما ملخصه - وقال - سبحانه - { رَحْمَةً } ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التى تتناول حصول نور الإِيمان والتوحيد والمعرفة فى القلب ، وحصول الطاعة فى الأعضاء والجوارح ، وحصول سهولة أسباب المعيشة والأمن والصحة والكفاية فى الدينا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره ، وحصول سهولة السؤال فى القبر ، وغفران السيئات والفوز بالجنات فى الآخرة . وقوله { مِن لَّدُنْكَ } يتناول كل هذه الأقسام . لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله " من لدنك " تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه - سبحانه - ثم قال { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } كأن العبد يقول إلهى هذا الذى طلبته منك فى هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى ، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك ، فأنت الوهاب الذى من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها ، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين ، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك " . هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير وغيره بعض الأحاديث النبوية عند تفسيرهم لهذه الآية ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائى وابن مردويه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال " لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبى وأسألك رحمتك . اللهم زدنى علما ، ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى ، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " . وروى الترمذى عن شهر بن حوشب قال " قلت لأم سلمة يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت كان أكثر دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " فقلت يا رسول الله ، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ؟ قال " يا أم سلمة إنه ليس آدمى إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ " فتلا معاذ - أحد رجال سند هذا الحديث - { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } . وعن أنس - رضي الله عنه - قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ، قلنا يا رسول الله قد آمنا بك ، وصدقنا بما جئت به ، أفيخاف علينا ؟ قال نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك - وتعالى - " . ثم حكى - سبحانه - ضراعة أخرى تضرع بها المؤمنون إلى خالقهم فقال { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } . أي يا ربنا إنك جامع الناس محسنهم ومسيئهم ، مؤمنهم وكافرهم . ليوم لا شك فى وقوعه وحصوله وهو يوم الحساب والجزاء ، لتجازى الذين أساءوا بما عملوا وتجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فأنت - سبحانك - لم تخلق الخلق عبثا ، ولن تتركهم سدى ، وإنما خلقتهم لرسالة عظمى هى عبادتك وطاعتك . فمن استجاب لك تفضلت عليه بالثواب العظيم ، ومن أعرض عن طاعتك عاقبته بما يستحقه . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب فى وقوع يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب . أى إنك يا مولانا لا تخلف ما أخبرت به عبادك من أن هناك يوما لا شك فى وقوعه ، تجازى فيه الناس على أعمالهم بمقتضى إرادتك ومشيئتك . وفى هذه الآية الكريمة إشعار بأن نهاية أمل المؤمنين أن يظفروا بالجزاء الحسن من خالقهم يوم القيامة ، لأنهم بعد أن سألوه تثبيت الإِيمان وسعة الرحمة ، توجهوا إليه بالمقصود الأعظم وهو حسن الثواب يوم القيامة . فكأنهم قالوا - كما يقول الرازى - ليس الغرض من تلك الدعوات ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها فانية وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء فى يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، وكلامك لا يكون كذبا فمن زاغ قلبه بقى هناك فى العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين ، بقى هناك فى السعادة والكرامة أبد الآبدين فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة " . وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملنا على دعوات كريمات بليغات ، من شأنها أن تسعد الناس فى دينهم ودنياهم . والله نسأل أن ينفعنا بها إنه مجيب الدعاء ، وأرحم الراحمين . وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذى حكاه الله - تعالى - عن عباده المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين ، وعن أسباب كفرهم وغرورهم ، وعن سوء عاقبتهم فقال تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ … } .