Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 54-60)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ … } استدلال آخر على قدرته - تعالى - ومعنى { مِّن ضَعْفٍ } من نطفة ضعيفة ، أو فى حال ضعف ، وهو ما كانوا عليه فى الابتداء من الطفولة والصغر … وقرأ الجمهور بضم الضاد ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها ، والضعف - بالضم والفتح - خلاف القوة ، وقيل بالفتح فى الرأى ، وبالضم فى الجسد … " . وقال - سبحانه - { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } ولم يقل خلقكم ضعافاً … للإشعار بأن الضعف هو مادتهم الأولى التى تركب منها كيانهم ، فهو شامل لتكوينهم الجسدى ، والعقلى ، والعطافى ، والنفسى … إلخ . أى الله - تعالى - بقدرته ، هو الذى خلقكم من ضعف ترون جانباً من مظاهره فى حالة طفولتكم وحداثة سنكم … { ثُمَّ جَعَلَ } - سبحانه - { مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } أى ثم جعل لكم من بعد مرحلة الضعف مرحلة أخرى تتمثل فيها القوة بكل صورها الجسدية والعقلية والنفسية … { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } أى ثم جعل من بعد مرحلة القوة ، مرحلة ضعف آخر ، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه فى الضعف ، وهى مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التى هى أرذل العمر ، وفيها يصير الإِنسان أشبه ما يكون بالطفل الصغير فى كثير من أحواله … { يَخْلُقُ } - سبحانه - { مَا يَشَآءُ } خلقه { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ } بكل شئ { ٱلْقَدِيرُ } على كل شئ . فأنت ترى أن هذه الآية قد جمعت مراحل حياة الإِنسان بصورها المختلفة . ثم بين - سبحانه - ما يقوله المجرمون عندما يبعثون من قبورهم للحساب فقال { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } . والمراد بالساعة يوم القيامة ، وسميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من عمر الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة ، والمراد بقيامها حصولها ووجودها ، وقيام الخلائق فى ذلك الوقت للحساب أى وحين تقوم الساعة ويرى المجرمون أنفسهم وقد خرجوا من قبورهم للحساب بسرعة ودهشة ، يقسمون بأنهم ما لبثوا فى قبورهم أو فى دنياهم ، غير وقت قليل من الزمان . قال ابن كثير يخبر الله - تعالى - عن جهل الكفار فى الدنيا والآخرة ، ففى الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأصنام ، وفى الآخرة يكون منهم جهل عظيم - أيضاً - فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا فى الدنيا إلا ساعة واحدة . ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم . وقوله { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } تذييل قصد به بيان ما جبلوا عليه من كذب . ويؤفكون من الافك بمعنى الكذب . يقال أفك الرجل ، إذا صرف عن الخير والصدق أى مثل هذا الكذب الذى تفوهوا به فى الآخرة كانوا يفعلون فى الدنيا ، فهم فى الدارين لا ينفكون عن الكذب وعن اختلاق الباطل . ثم حكى - سبحانه - ما قاله أهل العلم والإِيمان فى الرد عليهم . فقال { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ } . أى وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان من الملائكة والمؤمنين الصادقين فى الرد على هؤلاء المجرمين لقد لبثتم فى علم الله وقضائه بعد مفارقتكم الدنيا إلى يوم البعث ، أى إلى الوقت الذى حدده - سبحانه - لبعثكم ، والفاء فى قوله - تعالى - { فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ } هى الفصيحة . اى إن كنتم منكرين للبعث ، فهذا يومه تشاهدونه بأعينكم . ولا تستطيعون إنكاره الآن كما كنتم تنكرونه فى الدنيا . فالجملة الكريمة ، المقصود بها توبيخهم وتأنيبهم على إنكارهم ليوم الحساب . وقوله { وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } زيادة فى تقريعهم . أى فهذا يوم البعث مائل أمامكم . ولكنكم كنتم فى الدنيا لا تعلمون أن حق وصدق . بل كنتم بسبب كفركم وعنادكم تستخفون به وبمن يحدثكم عنه ، فاليوم تذوقون سوء عاقبة إنكاركم له ، واستهزائكم به . ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { فَيَوْمَئِذٍ } أى فيوم أن تقوم الساعة ويقف الناس للحساب . { لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أى لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يفيدهم علمهم بأن الساعة حق . { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أى ولا هم يقبل منهم الرجوع إلى الله - تعالى - بالتوبة والعمل الصالح . قال الآلوسى والاستعتاب طلب العتبى ، وهى الاسم من الإِعتاب ، بمعنى إزالة العتب . أى لا يطلب منهم إزالة عتب الله - تعالى - وغضبه عليهم ، لأنهم قد حق عليهم العذاب … " . ثم بين - سبحانه - موقفهم من القرآن الكريم ، وأنهم لو اتبعوا توجيهاته لنجوا من العذاب المهين ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ … } . أى وبالله لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن العظيم ، كل مثل حكيم ، من شأنه أن يهدى القلوب إلى الحق ، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها … { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أى ولئن جئت - أيها الرسول - هؤلاء المشركين بآية بينة تدل على صدقك فيما تبلغه عن ربك . { لَّيَقُولَنَّ } على سبيل التطاول والتبجح { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أى ما أنتم إلا متبعون للباطل أيها المؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم يعقب - سبحانه - على هذا التطاول والغرور بقوله { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } . والطبع الختم على الشئ حتى لا يخرج منه ما هو بداخله . ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه . أى مثل هذا الطبع العجيب ، يطبع الله - تعالى على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون ، ولا يعملون على إزالة جهلهم ، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء ، وهذا أسوأ أنواع الجهل ، لأنه جهل مركب ، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل . فهو كما قال الشاعر @ قال حمار الحكيم يوما لو أنصفونى لكنت أركب لأننى جاهل بسيط وصاحبى جاهل مركب @@ ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين ، فقال { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } . أى إذا كان الأمر كما وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين ، فاصبر على أذاهم ، وعلى جهالاتهم ، فإن وعد الله - تعالى - بنصرك عليهم حق لا شك فى ذلك . { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } أى ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون صحة ما تتلوا عليهم من آيات ، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير . وهكذا ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر ، كما افتتحت بالوعد به ، للمؤمنين الصادقين { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وبعد فهذه هى سورة الروم ، وهذا تفسير محرر لها ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه نافعاً لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .