Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 1-9)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سورة السجدة من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء فى لك بشئ من التفصيل عند تفسيرنا لسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف … وقلنا ما ملخصه إن أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض السور ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن . فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك الكافرين المعارضين فى أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفاً من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ومنظوماً من حروف ، وهى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم . فإن كنتم فى شك من كونه منزلاً من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو سورة من مثله … ومع كل هذا التساهل فى التحدى . فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت بذلك أن القرآن من عند الله - تعالى - وحده . وقوله - تعالى - { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } بيان لمصدر القرآن الكريم وأنه لا شك فى كونه من عند الله - عز وجل - . وقوله { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ } مبتدأ . وخبره { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة بينهما ، أو حال من الكتاب … أى تنزيل هذا الكتاب عليك - أيها الرسول الكريم - كائن من رب العالمين ، وهذا أمر لا شك فيه ، ولا يخالطه ريب أو تردد عند كل عاقل . وعجل - سبحانه - بنفى الريب ، حيث جعله بين المبتدأ والخبر ، لبيان أن هذه القضية ليست محلاً للشك أو الريب ، وأن كل منصف يعلم أن هذا القرآن من رب العالمين . و " أم " فى قوله - تعالى - { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } هى المنقطعة التى بمعنى بل والهمزة . والاستفهام للتعجيب من قولهم وإنكاره . والافتراء الاختلاق . يقال فلان افترى الكذب ، أى اختلقه . وأصله من الفرى بمعنى قطع الجلد . وأكثر ما يكون للإِفساد . والمعنى بل أيقول هؤلاء المشركون ، إن محمدا صلى الله عليه وسلم ، قد افترى هذا القرآن ، واختلقه من عند نفسه … ؟ وقوله - عز وجل - { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } رد على أقوالهم الباطلة . أى لا تستمع - أيها الرسول الكريم - إلى أقاويلهم الفاسدة ، فإن هذا القرآن هو الحق الصادر إليك من ربك - عز وجل - . ثم بين - سبحانه - الحكمة فى إرساله صلى الله عليه وسلم - وفى إنزال القرآن عليه فقال { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } . والإِنذار هو التخويف من ارتكاب شئ تسوء عاقبته . و " ما " نافية . و " نذير " فاعل " أتاهم " و " من " مزيدة للتأكيد . أى هذا القرآن - يا محمد - هو معجزتك الكبرى ، وقد أنزلناه إليك لتنذر قوماً لم يأتهم نذير من قبلك بما جئتهم به من هدايات وإرشادات وآداب . وقد فعلنا ذلك رجاء أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ويستقبلوا دعوتك بالطاعة والاستجابة لما تدعوهم إليه . ولا يقال إن إسماعيل - عليه السلام - قد أرسل إلى آباء هؤلاء العرب الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، لأن رسالة إسماعيل قد اندرست بطول الزمن ، ولم ينقلها الخلف عن السلف ، فكانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، جديدة فى منهجها وأحكامها وتشريعاتها . ثم أثنى - سبحانه - على ذاته ، بما يستحقه من إجلال وتعظيم وتقديس فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } . والأيام جمع يوم ، واليوم فى اللغة مطلق الوقت ، أى فى ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - . وهو - سبحانه - قادر على أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما فى لمحة أو لحظة ، ولكنه - عز وجل - خلقهن فى تلك الأوقات ، لكى يعلم عباده التأنى والتثبت فى الأمور . قال القرطبى قوله - تعالى - { سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال الحسن من أيام الدنيا . وقال ابن عباس إن اليوم من الأيام الستة ، التى خلق الله فيها السماوات والأرض ، مقداره ألف سنة من سنى الدنيا … وقال بعض العلماء ما ملخصه وليست هذه الأيام من أيام هذه الأرض التى نعرفها ، إذ أيام هذه الأرض ، مقياس زمنى ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلاً ونهاراً على هذه الأرض … وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة . أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة فى القرآن ، فعلمها عند الله . ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها ، فهى من ايام الله التى يقول عنها { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقوله - سبحانه - { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } إشارة إلى استعلائه وهيمنته على شئون خلقه . وقال بعض العلماء وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم … وقد ذكر فى إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات . أما الاستواء على العرش ، فذهب سلف الأمة ، إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } وأنه يجب الإِيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى - . قال الإِمام مالك الكيف غير مقعول ، والاستهواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . وقال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء جميعاً على الإِيمان بالصفات ، من غير تفسير ولا تشبيه . وقال الإِمام الرازى إن هذا المذهب هو الذى نقول به ونختاره ونعتمد عليه … " . وقوله - سبحانه - { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أى ليس لكم - أيها الناس - إذا تجاوزتم حدوده - عز وجل - { مِن وَلِيٍّ } أى من ناصر ينصركم إذا أراد عقابكم ، { وَلاَ شَفِيعٍ } يشفع لكم عنده لكى يعفو عنكم ، أفلا تعقلون هذه المعانى الواضحة ، وتسمعون هذه المواعظ البليغة ، التى من شأنها أن تحملكم على التذكر والاعتبار والطاعة التامة لله رب العالمين . فالآية الكريمة جمعت فى توجيهاتها الحكيمة ، بين مظاهر قدرة الله - تعالى - ، وبين الترهيب من معصية ومخالفة أمره ، وبين الحض على التذكر والاعتبار . ثم أضاف - سبحانه - إلى ما سبق أن وصف به ذاته ، صفات أخرى تليق بجلاله ، فقال { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . وقوله - تعالى - { يُدَبِّرُ } من التدبير بمعنى الإِحكام والإِتقان ، والمراد به هنا إيجاد الأشياء على هذا النحو البديع الحكيم الذى نشاهده ، وأصل التدبير النظر فى أعقاب الأمور محمودة العاقبة . وقوله { يَعْرُجُ } من العروج بمعنى الصعود والارتفاع والصيرورة إليه - تعالى - . والضمير فى " إليه " يعود إلى الأمر الذى دبره وأحكمه - سبحانه - . أى أن الله - تعالى - هو الذى يحكم شئون الدنيا السماوية والأرضية إلا أن تقوم الساعة ، وهو الذى يجعلها على تلك الصورة البديعة المتقنة ، ثم تصعد إليه - تعالى - تلك الأمور والشئون المدبرة ، فى يوم ، عظيم هو يوم القيامة { كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } من أيام الدنيا . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } متعلقان بقوله { يُدَبِّرُ } ومن ابتدائية ، وإلى انتهائية . أى يريده - تعالى - على وجه الإِتقان ومراعاة الحكمة ، منزلاً له من السماء إلى الأرض . وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه ، فإن أسبابه سماوية من الملائكة وغيرهم . وقوله { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أى ذلك الأمر بعد تدبيره . وهذا العروج مجاز عن ثوبته فى علمه … أو عن كتابته فى صحف الملائكة بأمره - تعالى - . وقال بعض العلماء وقد ذكر - سبحانه - هنا أنه { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . وذكر فى سورة الحج { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وذكر فى سورة المعارج { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } والجمع بين هذه الآيات من وجهين الأول ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف فى سورة الحج ، هو أحد الأيام الستة التى خلق الله فيها السماوات والأرض . ويوم الألف فى سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه - تعالى - ، ويوم الخمسين ألفا - فى سورة المعارج - هو يوم القيامة . الثانى أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أى أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة ، فهو يعادل فى حالة ألف سنة من سنى الدنيا ، ويعادل فى حالة أخرى خمسين ألف سنة . واسم الإِشارة فى قوله { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } يعود إلى الله - تعالى - ، وهو مبتدأ ، وما بعده أخبار له - عز وجل - . أى ذلك الذى اتصف بتلك الصفات الجليلة ، وفعل تلك الأفعال المتقنة الحكيمة ، هو الله - تعالى - ، { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أى عالم كل ما غاب عن الحسن ، وكل ما هو مشاهد له ، لا يخفى عليه شئ مما ظهر أو بطن { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلرَّحِيمُ } بعباده . { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أى الذى أحكم وأتقن كل شئ خلقه وأوجده فى هذا الكون ، لأنه - سبحانه - أوجده على النحو الذى تقتضيه حكمته ، وتستدعيه مصلحة عباده . قال الشوكانى وقرأ الجمهور { خلَقه } - بفتح اللام - على أنه فعل ماض صفة لشئ ، فهو فى محل جر . أو صفة للمضاف فيكون فى محل نصب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر " خلْقه " - بسكون اللام - وفى نصبه أوجه الأول أن يكون بدلاً من { كُلَّ شَيْءٍ } بدل اشتمال ، والضمير عائد على كل شئ ، وهذا هو المشهور … " . والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } آدم - عليه السلام - ، أى وبدأ خلق أبيكم آدم من طين ، فصار على أحسن صورة ، وأبدع شكل { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أى ذريته ، وسميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه . { مِن سُلاَلَةٍ } أى من خلاصة ، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية . { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أى ممتهن لا يهتم بشأنه ، ولا يعتنى به ، والمقصود به المنى الذى يخرج من الرجل . { ثُمَّ سَوَّاهُ } أى هذا المخلوق الذى أوجده من طين ، أو من ماء مهين . والمراد ثم عدل خلقه ، وسوى شكله ، وتناسب بين أعضائه ، وأتمه فى أحسن صورة … { وَنَفَخَ فِيهِ } - سبحانه - { مِن رُّوحِهِ } أى من قدرته ورحمته ، التى صار بها هذا الإِنسان إنساناً كاملاً فى أحسن تقويم . وإضافة الروح إليه - تعالى - للتشريف والتكريم لهذا المخلوق ، كما فى قولهم بيت الله . { وَجَعَلَ لَكُمُ } بعد ذلك { ٱلسَّمْعَ } الذى تسمعون به { وَٱلأَبْصَارَ } التى تبصرون بها ، { وَٱلأَفْئِدَةَ } التى تعقلون بها ، وتحسون الأشياء بواسطتها . وقوله { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } بيان لموقف بنى آدم من هذه النعم المتكاثرة والمتنوعة . ولفظ " قليلاً " منصوب على أنه صفة لمحذوف وقع معمولاً لتشكرون . أى شكراً قليلاً تشكرون ، أو زماناً قليلاً تشكرون . وهكذا بنو آدم - إلا من عصم الله - ، أوجدهم الله - تعالى - بقدرته ، وسخر لمنفعتهم ومصلحتهم ما سخر من مخلوقات ، وصانهم فى كل مراحل خلقهم بأنواع من الصيانة والحفظ … ومع ذلك فقليل منهم هم الذين يشكرونه - عز وجل - على نعمه . وصدق - سبحانه - حيث يقول { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } ثم حكى - سبحانه - شبهات المشركين ورد عليها ، وصور أحوالهم الأليمة عندما تقبض الملائكة أرواحهم ، فقال - تعالى - { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا … بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .