Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 1-5)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتحت سورة سبأ بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين . والحمد هو الثناء باللسان على الجميل الصدر عن اختيار من نعمة أو غيرها . و أل فى الحمد للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء ، هو الله - تعالى - . وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة عليه وحده - سبحانه - ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء ، فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، هو فى الحقيقة حمد له - لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه . وقد اختار - سبحانه - افتتاح هذه السورة بصفة الحمد ، دون المدح أو الشكر ، لأنه وسط بينهما ، إذ المدح أعم من الحمد ، لأن المدح يكون للعاقل وغيره ، فقد يمدح الإِنسان لعقله ، وتمدح اللؤلؤة لجماها ، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان . والحمد أخص من الشكر ، لأن الشكر يكون من أجل نعمه وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك . وفى القرآن الكريم خمس سور اشتركت فى الافتتاح بقوله - تعالى - { ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } وهى سورة الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر . ولكن لكل سورة من هذه السور ، منهج خاص فى بيان أسباب الحمد لله - تعالى - وحده . وقد أحسن القرطبى - رحمه الله - عندما قال فإن قيل قد افتتح غيرها أى سورة الأنعام - بالحمد لله ، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره ؟ فالجواب أن لكل واحد منه معنى فى موضعه ، لا يؤدى عن غيره ، من أجل عقده بالنعم المختلفة ، و - أيضا - فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون . والمعنى الحمد الكامل الشامل لله - تعالى - وحده ، لأنه هو ، الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، بحيث لا يخرج شئ فيهما عن إرادته ومشيئته . قوله وله الحمد فى الآخرة ، تنبيه إلى أن حمده - عز وجل - ليس مقصورا على الدنيا ، بل يشمل الدنيا والآخرة . فالمؤمنون فى الدنيا على ما وهبهم من نعم الإِيمان والإِحسان ، ويحمدونه فى الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السماوات والأرض ، ويقولون { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } قال صاحب الكشاف ولما قال - سبحانه - الحمد لله ، ثم وصف ذاته بالإِنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه أنه المحمود على نعم الدنيا ، تقول احمد أخاك الذى كساك وحملك ، تريد احمده على كسوته وحملانه . ولما قال { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ } علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب . وقال الآلوسى والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل ، أن الأول على نهج العبادة ، والثانى على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد فى الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس . وقال الجمل فإن قلت الحمد مدح للنفس ، ومدحها مستقبح فيما بين الخلق ، فما وجه ذلك ؟ فالجواب ان هذا المدح دليل على أن حاله - تعالى - بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه - تعالى - مقدس عن أن تقاس أفعاله ، على افعال العباد . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } أى وهو - تعالى - الذى أحكم أمور الدارين ، ودبرها بحكمته ، وهو العليم بظواهر عباده وبواطنهم ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم . ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر علمه فقال { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } والولوج الدخول ، يقال ولج فلان منزله ، فهو يلجه ولجا وولوجا ، إذا دخله . أى أنه - سبحانه - يعلم ما يلج فى الأرض وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء ، ومن جواهر دفنت فى طياتها ، ومن بذور ومعادن فى جوفها . ويعلم - أيضا - { مَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وحبوب وكنوز ، وغير ذلك من أنواع الخيرات . ويعلم كذلك { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } من أمطار ، وثلوج ، وبرد ، وصواعق ، وبركات ، من عنده - تعالى - لأهل الأرض . { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أى ويعلم ما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة ، كما قال - تعالى - { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وعدى العروج بفى لتضمنه معنى الاستقرار ، وهو فى الأصل يعد بإلى قال - تعالى - { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } وقوله { يَعْرُجُ } من العروج ، وهو الذهاب فى صعود . والسماء جهة العلو مطلقا . { وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ } أى وهو - سبحانه - صاحب الرحمة الواسعة ، والمغفرة العظيمة ، لمن يشاء من عباده . وهذه الآية الكريمة - مع وجازة ألفاظها - تصور تصويرا بديعا معجزا ، مظاهر علم الله - تعالى - ، ولو أن أهل الأرض جميعا حاولوا إحصاء { مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } لما استطاعوا أن يصلوا إلى إحصاء بعض تلك الحشود الهائلة من خلق الله - تعالى - فى أرضه أو سمائه . ولكن هذه الحشود العجيبة فى حركاتها ، وأحجامها ، وأنواعها ، وأجناسها ، وصورها ، وأحوالها … قد أحصاها علم الله - تعالى - الذى لا يخفى عليه شئ . ثم حكى - سبحانه - ما قاله الكافرون فى شأن يوم القيامة ، فقال - تعالى - { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } . أى وقال الذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر ، لا تأتينا الساعة بحال من الأحوال ، وإنما نحن ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وإذا متنا فإن الأرض تأكل أجسادنا ، ولا نعود إلى الحياة مرة أخرى . وعبروا عن إنكارهم لها بقولهم { لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } مبالغة فى نفيها نفيا كليا ، فكأنهم يقولون لا تأتينا الساعة فى حال من الأحوال ، لأننا ننكر وجودها أصلا ، فضلا عن إتيانها . وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يؤكد وجودها وإتيانها تأكيدا قاطعا فقال { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . و " بلى " حرف جواب لرد النفى ، فتفيد إثبات المنفى قبلها ، ثم أكد - سبحانه - ذلك بجملة القسم . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة ليس الأمر كما زعمتم ، بل هى ستأتيكم بغتة ، وحق ربى الذى أوجدنى وأوجدكم . فالجملة الكريمة قد اشتملت على جملة من المؤكدات التى تثبت أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ومن ذلك التعبير بـ { بَلَىٰ } بالجملة القسمية . قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية هذه إحدى الآيات الثلاث التى لا رابع لهن ، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد فإحداهن فى سورة يونس ، وهى قوله - تعالى - { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } والثانية هذه الآية التى معنا . والثالثة فى سورة التغابن وهى قوله - تعالى - { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ … } وقوله - تعالى - { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تقوية لتأكيد إتيان الساعة . قالوا لأن تأكيد القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه ، وقوة إثباته ، وصحته ، لما أن ذلك فى حكم الاستشهاد على الأمر . وقوله { يَعْزُبُ } بمعنى يغيب ويخفى ، وفعله من باب " قتل وضرب " . يقال عزب الشئ يعزب - بضم الزاى وكسرها - إذا غاب وبعد . والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة كذبتم فى إنكاركم وحق الله - تعالى - لتأتينكم ، والذى أخبرنى بذلك هو الله - تعالى - { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ } أى عالم ما غاب وخفى عن حسكم ، وهو - سبحانه - لا يغيب عن علمه مقدار أو وزن مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ، ولا أصغر من ذلك المثقال ، ولا أكبر منه ، إلا وهو مثبت وكائن فى علمه - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ ، أو فى اللوح المحفوظ الذى فيه تسجل أحوال الخلائق وأقوالهم وأفعالهم . وقوله - سبحانه - { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ } قرأ بعضهم بكسر الميم على أنه نعت لقوله { رَبِّي } . أى قل بلى وربى عالم الغيب لتأتينكم الساعة . وقرأه آخرون بضم الميم على أنه مبتدأ ، وخبر جملة { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف . أى هو عالم الغيب . وقوله { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } تمثيل لقلة الشئ ، ودقته ، والمراد انه لا يغيب عن علمه شئ ما ، مهما دق أو صغر ، إذ المثقال مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ البالغ النهاية فى الصغر ، والذرة تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذى يتطاير من التراب عند النفخ . وفى قوله - سبحانه - { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } إعجاز علمى بليغ للقرآن الكريم ، إذ كان من المعروف إلى عهد قريب ، أن الذرة أصغر الأجسام ، فأشار القرآن إلى أن هناك ما هو أصغر منها ، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث بعد تحطيم الذرة ، وتقسيمها إلى جزئيات . قال الجمل وقوله { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } العامة على رفع أصغر وأكبر ، وفيه وجهان أحدهما الابتداء ، والخبر إلا فى كتاب ، والثانى العطف على { مِثْقَالُ } ، وعلى هذا فيكون قوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيد للنفى فى { لاَ يَعْزُبُ } كأنه قال لكنه فى كتاب مبين . فإن قيل فأى حاجة إلى ذكر الأكبر ، فإن من علم ما هو أصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب لما كان الله - تعالى - أراد بيان إثبات الأمور فى الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فقال الإِثبات فى الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر مكتوب أيضا . واللام فى قوله - تعالى - { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } متعلقة بقوله { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وهى للتعليل ولبيان الحكمة فى إتيانها . أى لتأتينكم الساعة أيها الكافرون ، والحكمة فى ذلك ليجزى - سبحانه - الذى آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن الذى يستحقونه . { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بصفتى الإِيمان والعمل الصالح { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } عظيمة من ربهم لذنوبهم { وَ } لهم كذلك { رِزْقٌ كَرِيمٌ } تنشرح له صدورهم ، وتقرّ به عيونهم . { وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أى والذين سعوا فى إبطال آياتنا ، وفى تكذيب رسلنا { مُعَاجِزِينَ } أى مسابقين لنا ، لتوهمهم أننا لا نقدر عليهم ، وأنهم يستطيعون الإِفلات من عقابنا . يقال عاجز فلان فلانا وأعجزه إذا غالبه وسبقه . { أُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } أى لهم عذاب من أسوأ أنواع العذاب وأشده ألما وإهانة . وهكذا نرى الآيات الكريمة بعد ثنائها على الله - تعالى - بما هو أهله ، وبعد إثباتها لعلمه الذى لا يعزب عنه شئ ، وبعد حكايتها لأقوال المشركين وردها عليهم . بعد كل ذلك تصرح بأن الحكمة من إتيان الساعة . مجازاة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بما يستحقون من ثواب ، ومجازاة الذين كفروا وسعوا فى آيات الله بالقدح فيها وصد الناس عنها . بما يستحقون من عقاب . ثم بين - سبحانه - موقف أهل العلم النافع مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، وموقف الكافرين من ذلك ، ورد - سبحانه - على هؤلاء الكافرين بما يثبت ضلالهم وجهلهم ، فقال - تعالى - { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ … لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } .