Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 1-3)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " فاطر " كما سبق أن ذركنا عند تفسيرنا لسورة " سبأ " بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين . والحمد هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة وغيرها . و " أل " فى الحمد للاستغراق . بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء هو الله - تعالى - . وقوله { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذى ، إذ المراد بالفطر هنا الابتداء والاختراع للشئ الذى لم يوجد ما يشبهه من قبل . قال القرطبى والفاطر الخالق ، والفَطْر - بفتح الفاء - الشق عن الشئ . يقال فطرته فانفطر . ومنه فطر ناب البعير ، أى طلع . وتفطر الشئ ، أى تشقق … والفطر الابتداء والاختراع . قال ابن عباس كنت لا أدرى ما { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } حتى أتى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما أنا فطرتهما ، أى أنا ابتدأتها … والمراد بذكر السماوات والأرض العالم كله . ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء ، قادر على الإِعادة . والمعنى الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله - تعالى - وحده ، فهو - سبحانه الخالق للسموات والأرض ، ولهذا الكون بأسره ، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق ، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك . وقوله - تعالى - { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - التى لا يعجزها شئ . والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملاك . وهم جند من خلق الله - تعالى - وقد وصفهم - سبحانه - بصفات متعددة ، منها أنهم { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } قال الجمل وقوله جاعل الملائكة ، أى بعضهم . إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم . وقوله { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } نعت لقوله { رُسُلاً } ، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا . أو هو نعت للملائكة ، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة ، فهى صفة كاشفة … وقوله { مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أسماء معدول بها عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وهى ممنوعة من الصرف ، للوصفية والعدل عن المكرر وهى صفة لأجنحة . أى الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض بقدرته ، والذى جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه . وإلى من يشاء من عباده ، ليبلغوهم ما يأمرهم - سبحانه - بتبليغه إليهم … وهؤلاء الملائكة المكرمون ، ذوو أجنحة عديدة . منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، لأن المراد بهذا الوصف ، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً . … } معناه جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالته بالوحى والإِلهام والرؤيا الصادقة ، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ، كالأمطار والرياح وغيرهما . وقوله { مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناه أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا دلالة فى الآية على نفى الزائد ، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت ، لا للتعيين ولا لنفى النصان عن اثنين … فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود فى قوله - تعالى - { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح … وقوله - تعالى - { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، من كمال قدرته ، ونفاذ إرادته . أى يزيد - سبحانه - فى خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التى لا يحيط بها الوصف ، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء ، وكذلك ينقص فى الخلق ما يشاء ، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير . قال صاحب الكشاف قوله { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } أى يزيد فى خلق الأجنحة ، وفى غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته . والآية مطلقة تتناول كل زيادة فى الخلق من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة فى العقل ، وجزالة فى الرأى ، وجرأة فى القلب ، وسماحة فى النفس ، وذلاقة فى اللسان ، ولباقة فى التكلم ، وحسن تأن فى مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف … ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى إن الله - تعالى - لا يعجزه شيئ يريده ، لأنه قدير على فعل كل شئ ، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه - سبحانه - يزيد فى الخلق ما يشاء ، وينقص منه ما يشاء . وقوله - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا … } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته وفضله على عباده . والمراد بالفتح هنا الإِطلاق والإِرسال على سبيل المجاز . بعلاقة السببية لأن فتح الشئ المغلق ، سبب لإطلاق ما فيه وإرساله . أى ما يرسل الله - تعالى - بفضله وإحسانه للناس من رحمة متمثلة فى الأمطار ، وفى الأرزاق ، وفى الصحة … وفى غير ذلك ، فلا أحد يقدر على منعها عنهم . { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أى وما يمسك من شئ لا يريد إعطاءه لهم ، فلا أحد من الخلق يستطيع إرساله لهم . بعد أن منعه الله - تعالى - عنهم . { وَهُوَ } - سبحانه - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمُ } فى كل أقواله وأفعاله . وعبر - سبحانه - فى جانب الرحمة بالفتح ، للإِشعار بأن رحمته - سبحانه - من أعظم النعم وأعلاها ، حتى لكأنها بمنزلة الخزائن المليئة بالخيرات ، والتى متى فتحت أصاب الناس منها ما أصابوا من نفع وبر . و { مِن } فى قوله { مِن رَّحْمَةٍ } للبيان . وجاء الضمير فى قوله { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } مؤنثا ، لأنه يعود إليه وحدها . وجاء مذكرا فى قوله { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } لأنه يشملها ويشمل غيرها ، أى وما يسمك من رحمة أو غيرها عن عباده فلا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه - سبحانه - . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ … } وقوله - سبحانه - { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } قال ابن كثير وثبت فى صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى . " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع راسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده . اللهم ربنا لك الحمد . ملئ السماوات والأرض . وملئ ما شئت من شئ بعد … اللهم لا مانع لما أعطيت . ولا معطى لما منعت … ولا ينفع ذا الجد منك الجد - أى ولا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما الذى ينفعه عمله الصالح " . ثم وجه - سبحانه - نداء الى الناس . أمرهم فيه بذكره وشكره فقال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } . والمراد من ذكر النعمة ذكرها باللسان وبالقلب ، وشكر الله تعالى عليها ، واستعمالها فيما خلقت له . والمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التى أنعم بها - سبحانه - على الناس . كنعمة خلقهم ، ورزقهم ، وتسخير كثير من الكائنات لهم . والاستفهام فى قوله { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ } للنفى والإِنكار ، أى يأيها الناس اذكروا بألسنتكم وقلوبكم ، نعم الله - تعالى - عليكم ، واشكروه عليها . واستعملوها فى الوجوه التى أمركم باستعمالها فيها ، واعلموا أنه لا خالق غير الله - تعالى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره ، ويرزقكم من الأرض بالنبات والزروع والثمار وما يشبه ذلك من الأرزاق التى فيها حياتكم وبقاؤكم . وقوله - تعالى - { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } جملة مستأنفة لتقرير النفى المستفاد مما قبله أى لا إله مستحق للعبادة والطاعة إلا الله - تعالى - ، إذ هو الخالق لكم ، وهو الذى أعطاكم النعم التى لا تعد ولا تحصى . { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أى وما دام الأمر كذلك فكيف تصرفون عن إخلاص العبادة لخالقكم ورازقكم ، إلى الشرك فى عبادته . فقوله { تُؤْفَكُونَ } من الأفك - بالفتح - بمعنى الصرف والقلب يقال أفكه عن الشئ ، إذا صرفه عنه ، ومنه قوله - تعالى - { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا … } أى لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا . وبعد هذا البيان المعجز لمظاهر قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده ، وهيمنته على شئون خلقه … أخذت السورة الكريمة فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم وفى دعوة الناس إلى اتباع ما جاءهم به هذا النبى الكريم ، وفى بيان مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، فقال - تعالى - { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ … عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .