Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 17-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخطاب فى قوله - تعالى - { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ … } للنبى صلى الله عليه وسلم . أى اصبر - أيها الرسول الكريم - على ما قاله أعداؤك فيك وفى دعوتك لقد قالوا عنك إنك ساحر ومجنون وكاهن وشاعر … وقالوا عن القرآن الكريم إنه أساطير الأولين … وقالوا فى شأن دعوتك إياهم إلى وحدانية الله - تعالى - { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } وقالوا غير ذلك مما يدل على جهلهم وجحودهم للحق ، وعليك - أيها الرسول الكريم - أن تصبر على ما صدر منهم من أباطيل ، فإن الصبر مفتاح الفرج ، وهو الطريق الذى سلكه كل نبى من قبلك . وقال - سبحانه - { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } بصيغة المضارع ، لاستحضار الصورة الماضية . وللإِشعار بأن ما قالوه فى الماضى سيجددونه فى الحاضر وفى المستقبل فعليه أن يعد نفسه لاستقبال هذه الأقوال الباطلة بصبر وسعة صدر حتى يحكم الله - تعالى - بحكمه العادل ، بينه وبينهم . وقوله - تعالى - { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } معطوف على جملة " واصبر " … وداود - عليه السلام - هو ابن يسى من سبط " يهوذا " بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وكانت ولادة داود فى حوالى القرن الحادى عشر قبل الميلاد . وقد منحه الله - تعالى - النبوة والملك . وقوله - تعالى - { ذَا ٱلأَيْدِ } صفة لداود ، والأَيْد القوة . يقال آدَ الرجل يئيد أَيْداً وإيادا ، إذا قوى واشتد عوده ، فهو أَيِّد . ومنه قولهم فى الدعاء أيدك الله . أى قواك و { أَوَّابٌ } صيغة مبالغة من آب إذا رجع . أى اصبر - أيها الرسول الكريم - على أذى قومك حتى يحكم الله بينك وبينهم واذكر - لتزداد ثباتا وثقة - قصة وحال عبدنا داود ، صاحب القوة الشديدة فى عبادتنا وطاعتنا وفى دحر أعدائنا … { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أى كثير الرجوع إلى ما يرضينا . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله ونعمه على عبده داود - عليه السلام - فقال { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ … } والعشى الوقت الذى يكون من الزوال إلى الغروب أو إلى الصباح . والإِشراق وقت إشراق الشمس ، أى سطوعها وصفاء ضوئها ، قالوا وهو وقت الضحى … فالإِشراق غير الشروق ، لأن الشروق هو وقت طلوع الشمس . وهو يسبق الإِشراق أى إن من مظاهر فضلنا على عبدنا داود ، أننا سخرنا وذللنا الجبال معه ، بأن جعلناها بقدرتنا تقتدى به فتسبح بتسبيحه فى أوقات العشى والإِشراق . وقال - سبحانه - { مَعَهُ } للإشعار بأن تسبيحها كان سبيل الاقتداء به فى ذلك . أى أنها إذا سمعته يسبح الله - تعالى - ويقدسه وينزهه ، رددت معه ما يقوله . وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى - إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق . وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود . وخص - سبحانه - وقتى العشى والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما . وقوله - تعالى - { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً … } معطوف على الجبال وكلمة محشورة بمعنى مجموعة . وهى حال من الطير . والعامل قوله { سخرنا } . أى إنا سخرنا الجبال لتسبح مع داود عند تسبيحه لنا ، كما سخرنا الطير وجمعناها لتردد معه التسبيح والتقديس لنا . والتعبير بقوله { مَحْشُورَةً } يشير إلى أن الطير قد حبست وجمعت لغرض التسبيح معه ، حتى لكأنها تحلق فوقه ولا تكاد تفارقه من شدة حرصها على تسبيح الله - تعالى - وتقديسه . وجملة { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } مقررة لمضمون ما قبلها من تسبيح الجبال والطير . واللام فى " له " للتعليل ، والضمير يعود إلى داود - عليه السلام - . أى كل من الجبال والطير . من أجل تسبيح داود ، كان كثير الرجوع إلى التسبيح . ويصح أن يكون الضمير يعود إلى الله - تعالى - فيكون المعنى كل من داود والجبال والطير ، كان كثير التسبيح والتقديس والرجوع إلى الله - تعالى - بما يرضيه . وقوله - تعالى - { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أى قوينا ملك داود ، عن طريق كثرة الجند التابعين له ، وعن طريق ما منحناه من هيبة ونصرة وقوة … { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } أى النبوة ، وسعة العلم ، وصالح العمل ، وحسن المنطق . { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } أى وآتيناه أيضا الكلام البليغ الفاصل بين الحق والباطل ، وبين الصواب والخطأ ، ووفقناه للحكم بين الناس بطريقة مصحوبة بالعدل ، وبالحزم الذى لا يشوبه تردد أو تراجع . ثم ساق - سبحانه - ما يشهد لعبده داود بذلك فقال { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } . والاستفهام للتعجيب والتشويق لما يقال بعده ، لكونه أمرا غريبا تتطلع إلى معرفته النفس . والنبأ الخبر الذى له أهمية فى النفوس … والخصم أى المتخاصمين أو الخصماء . وهو فى الأصل مصدر خصمه أى غلبه فى المخاصمة والمجادلة والمنازعة ، ولكونه فى الأصل صح إطلاقه على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث … قالوا وهو مأخوذ من تعلق كل واحد من المتنازعين بخُصُم الآخر . أى بجانبه … والظرف فى قوله { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } متعلق بمحذوف . والتسور اعتلاء السور ، والصعود فوقه ، إذ صيغة التفعل تفيد العلو والتصعد . كما يقال تسنم فلان الجمل ، إذ علا فوق سنامه . والمحراب المكان الذى كان يجلس فيه داود - عليه السلام - للتعبد وذكر الله - تعالى - . والمعنى وهل وصل إلى علمك - أيها الرسول الكريم - ذلك النبأ العجيب ، ألا وهو نبأ أولئك الخصوم ، الذين تسلقوا على داود غرفته ، وقت أن كان جالسا فيها لعبادة ربه ، دون إذن منه ، ودون علم منه بقدومهم … إن كان هذا النبأ العجيب لم يصل إلى علمك ، فها نحن نقصه عليك . وقوله { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ … } بدل مما قبله . والفزع انقباض فى النفس يحدث للإِنسان عند توقع مكروه . أى أن هؤلاء الخصوم بعد أن تسوروا المحراب ، دخلوا على داود ، فخاف منهم ، لأنهم أتوه من غير الطريق المعتاد للإِتيان وهو الباب ، ولأنهم أتوه فى غير الوقت الذى حدده للقاء الناس وللحكم بينهم ، وإنما أتوه فى وقت عبادته . ومن شأن النفس البشرية أن تفزع عندما تفاجأ بحالة كهذه الحالة . قال القرطبى فإن قيل لم فزع داود وهو نبى ، وقد قويت نفسه بالنبوة واطمأنت بالوحى ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة فى غاية المكانة ؟ قيل له ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ، ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } - أى فرعون - ، فقال الله لهما { لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } … والبغى الجور والظلم … وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد . والشطط مجاوزة الحد فى كل شئ . يقال شط فلان على فلان فى الحكم واشتط … إذا ظلم وتجاوز الحق إلى الباطل . وقوله { خَصْمَانِ } خبر لمبتدأ محذوف أى نحن خصمان . والجملة استئناف معلل للنهى فى قولهم " لا تخف " أى قالوا لداود لا تخف ، نحن خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحكم الحق ، ولا تتجاوزه إلى غيره ، { وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } أى وأرشدنا إلى الطريق الوسط ، وهو طريق الحق والعدل . وإضافة سواء الصراط ، من إضافة الصفة إلى الموصوف . ثم أخذا فى شرح قضيتهما فقال أحدهما " إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب " . والمراد بالأخوة هنا الأخوة فى الدين أو فى النسب ، أو فيهما وفى غيرهما كالصحبة والشركة . والنعجة الأنثى من الضأن . وتطلق على أنثى البقر . وقوله { أَكْفِلْنِيهَا } أى ملكنى إياها ، وتنازل لى عنها ، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التى عندى ، ليتم عددها مائة . وقوله { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أى غلبنى فى المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى … يقال فلان عز فلانا فى الخطاب ، إذا غلبه . ومنه قولهم فى المثل من عزَّ بزَّ . أى من غلب غيره سلبه حقه . أى قال أحدهما لداود - عليه السلام - إن هذا الذى يجلس معى للتحاكم أمامك أخى . وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة ، أما أنا فليس لى سوى نعجة واحدة ، فطمع فى نعجتى وقال لى { أَكْفِلْنِيهَا } أى ملكنيها وتنازل عنها { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } . أى وغلبنى فى مخاطبته لى ، لأنه أقوى وأفصح منى . وأمام هذه القضية الواضحة المعالم ، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى ، وعدم اعتراضه على قوله … أمام كل ذلك . لم يلبث أن قال داود فى حكمه { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ … } واللام فى قوله { لَقَدْ … } جواب لقسم محذوف . وإضافة " سؤال " إلى { نَعْجَتِكَ } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والفاعل محذوف . أى بسؤاله ، كما فى قوله - تعالى - { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } أى من دعائه . وقوله { نعاجه } متعلق بسؤال على تضمينه معنى الضم . أى قال داود - عليه السلام - بعد فراغ المدعى من كلامه ، وبعد إقرار المدعى عليه بصدق أخيه فيما ادعاه - والله إن كان ما تقوله حقا - أيها المدعى - فإن أخاك فى هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طلبه منك أن تتنازل له عن نعجتك لكى يضمها إلى نعاجه الكثيرة . وإنما قلنا إن داود - عليه السلام - قد قال ذلك بعد إقرار المدعى عليه بصحة كلام المدعى ، لأنه من المعروف أن القاضى لا يحكم إلا بعد سماع حجة الخصوم أو الخصين حتى يتمكن من الحكم بالعدل . ولم يصرح القرآن بأن داود - عليه السلام - قد قال حكمه بعد سماع كلام المدعى عليه ، لأنه مقرر ومعروف فى كل الشرائع ، وحذف ما هو مقرر ومعلوم جائز عند كل ذى عقل سليم . ثم أراد داود - عليه السلام - وهو الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب - أراد أن يهون المسألة عن نفس المشتكى ، وأن يخفف من وقع ما قاله أخوه الغنى له ، وما فعله معه ، فقال { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ … } . أى قال داود للمشتكى - على سبيل التسلية له - وإن كثيرا من الخلطاء ، أى الشركاء - جمع خليط ، وهو من يخلط ماله بمال غيره . { لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أى ليعتدى بعضهم على بعض ، ويطمع بعضهم فى مال الآخر { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } فإنهم لا يفعلون ذلك لقوة إيمانهم ، ولبعدهم عن كل ما لا يرضى خالقهم ، فالجملة الكريمة منصوبة المحل على الاستثناء ، لأن الكلام قبلها تام موجب . وقوله { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } بيان لقلة عدد المؤمنين الصادقين الذين يعدلون فى أحكامهم . ولفظ " قليل " خبر مقدم و " ما " مزيدة للإِبهام وللتعجب من قلتهم . و " هم " مبتدأ مؤخر . فكأنه - سبحانه - يقول ما أقل هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحرصون على إعطاء كل ذى حق حقه ، والجملة الكريمة اعتراض تذييلى . وبهذا نرى أن داود - عليه السلام - قد قضى بين الخصمين ، بما يحق الحق ويبطل الباطل . ثم بين - سبحانه - ما حاك بنفس داود - عليه السلام - بعد أن دخل عليه الخصمان ، وبعد أن حكم بينهما بالحكم السابق فقال { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } . والظن معناه ترجيح أحد الأمرين على الآخر . وفتناه بمعنى امتحناه واختبرناه وابتليناه ، مأخوذ من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار . أى وظن داود - عليه السلام - أن دخول الخصمين عليه بهذه الطريقة ، إنما هو لأجل الاعتداء عليه . وأن ذلك لون من ابتلاء الله - تعالى - له ، وامتحانه لقوة إيمانه ، ولكن لما لم يتحقق هذا الظن ، وإنما الذى تحقق هو القضاء بينهما بالعدل ، استغفر ربه من ذلك الظن ، { وَخَرَّ رَاكِعاً } أى ساجدا لله - تعالى - وعبر عنه بالركوع لأنه فى كل منهما انحناء وخضوع لله - عز وجل - " وأناب " أى ورجع داود إلى الله - تعالى - بالتوبة وبالمداومة على العبادة والطاعة . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ … } يعود إلى الظن الذى استغفر منه ربه ، وهو ظنه بأن حضور الخصمين إليه بهذه الطريقة غير المألوفة ، القصد منها الاعتداء عليه ، فلما ظهر له أنهما حضرا إليه فى خصومه بينهما ليحكم فيها ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق ، فغفر الله - تعالى - له . فقوله - تعالى - { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أى فغفرنا له ذلك الظن الذى استغفر منه … { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } أى لقربه منا ومكانه سامية { وَحُسْنَ مَـآبٍ } أى وحسن مرجع فى الآخرة وهو الجنة . ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ، بتلك التوجيهات الحكيمة ، والآداب القويمة ، التى وجهها - سبحانه - إلى كل حاكم فى شخص داود - عليه السلام - فقال { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ … } والخليقة هو من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل . والتاء فيه للمبالغة . أى يا داود إنا جعلناك - بفضلنا ومنتنا - خليفة ونائبا عنا فى الأرض ، لتتولى سياسة الناس ، ولترشدهم إلى الصراط المستقيم . والجملة الكريمة مقولة لقول محذوف معطوفة على ما سبقتها . أى فغفرنا له ذلك وقلنا له يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض . ويصح أن تكون مستأنفة لبيان مظاهر الزلفى والمكانة الحسنة التى وهبها - سبحانه - لداود ؟ حيث جعله خليفة فى الأرض . والفاء فى قوله - تعالى - { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ … } للتفريع ، أو هى جواب لشرط مقدر . والهوى ميل النفس إلى رغباتها بدون تحر للعدل والصواب . أى إذا كان الأمر كما أخبرناك فاحكم - يا داود - بين الناس بالحكم الحق الذى أرشدك الله - تعالى - إليه ، وواظب على ذلك فى جميع الأزمان والأحوال ولا تتبع هوى النفس وشهواتها ، فإن النفس أمارة بالسوء . وقوله - سبحانه - { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } بيان للمصير السيئ الذى يؤدى إليه اتباع الهوى فى الأقوال والأحكام . وقوله { فَيُضِلَّكَ } منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، على أنه جواب للنهى السابق . أى ولا تتبع الهوى ، فإن اتباعك له ، يؤدى بك إلى الضلال عن طريق الحق ، وعن مخالفة شرع الله - تعالى - ودينه . ثم بين - سبحانه - عاقبة الذين يضلون عن سبيله فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } . أى إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته ، بسبب اتباعهم للهوى ، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب ، وما فيه من ثواب وعقاب . هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى 1 - سمو منزلة داود - عليه السلام - عند ربه ، فقد افتتحت هذه الآيات ، بأن أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر ما حدث لأخيه داود . ليكون هذا التذكير تسلية له عما أصابه من المشركين وعونا له على الثبات والصبر . ثم وصف - سبحانه - عبده داود بأنه كان قويا فى دينه ، ورجاعا إلى ما يرضى ربه ، وأنه - سبحانه - قد وهبه نعما عظيمة ، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب . ثم ختمت هذه الآيات - أيضا - بالثناء على داود - عليه السلام - حيث قال - سبحانه - { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } . وببيان أنه - تعالى - قد جعله خليفة فى الأرض . ومن الأحاديث التى وردت فى فضله - عليه السلام - ما أخرجه البخاري فى تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر داود ، وحدث عنه قال " كان أعبد البشر " . وأخرجه الديلمى عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود " . 2 - أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب ، قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم ، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث . فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله - تعالى - له … والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى . قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم … وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه . 2 - ومع أن ما ذكرناه سابقا ، وما نقلناه عن الإِمام أبى حيان ، هو المعنى الظاهر من الآيات ، وهو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه يتناسب مع مكانة داود - عليه السلام - ، ومع ثناء الله - تعالى - عليه وتكريمه له . أقول مع كل ذلك ، إلا أننا وجدنا كثيرا من المفسرين عند حديثهم عن قصة الخصوم الذين تسوروا على داود المحراب ، يذكرون قصصا فى نهاية النكارة ، وأقوالا فى غاية البطلان والفساد . فمثلا نرى ابن جرير وغيره يذكرون قصة مكذوبة ملخصها " أن داود - عليه السلام - كان يصلى فى محرابه … ثم تطلع من نافذة المكان الذى كان يصلى فيه ، فرأى امرأة جميلة فأرسل إليها فجاءته ، فسألها عن زوجها فأخبرته بأن زوجها ، اسمه " أوريا " وأنه خرج مع الجيش الذى يحارب الأعداء . . فأمر داود - عليه السلام - قائد الجيش أن يجعله فى المقدمة لكى يكون عرضة للقتل … وبعد قتله تزوج داود بتلك المرأة … ونرى صاحب الكشاف بعد أن يذكر هذه القصة ، ثم يعلق عليها بقوله " فهذا ونحوه مما يقبح أن يُحَدَّثَ به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء … " نراه يذكر معها قصصا أخرى ملخصها أن داود - عليه السلام - لم يعمل على قتل " أوريا " وإنما سأله أن يتنازل له عن امرأته ، فانصاع لأمره وتنازل له عنها … أو أنه خطبها بعد أن خطبها " أوريا " فآثر أهلها داود على " أوريا " . قال صاحب الكشاف كان أهل زمان داود - عليه السلام - يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة فى المواساة بذلك قد اعتادوها … فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له " أوريا " فأحبها ، فسأله النزول عنها ، فاستحيا أن يرده ، ففعل ، فتزوجها ، وهى أم سليمان - عليه السلام - وقيل خطبها " أوريا " ثم خطبها داود فآثر أهلها داود على أوريا … والذى نراه أن هذه الأقوال وما يشبهها عارية عن الصحة ، وينكرها النقل والعقل ، ولا يليق بمؤمن أن يقبل شيئا منها … ينكرها النقل لأنها لم تثبت من طريق يعتد به ، بل الثابت أنها مكذوبة . قال ابن كثير قد ذكر المفسرون ها هنا قصة ، أكثرها مأخوذ من الإِسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبى حاتم حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشى ، عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة … وقال السيوطى القصة التى يحكونها فى شأن المرأة وأنها أعجبته ، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبى حاتم من حديث أنس مرفوعا ، وفى إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف - عن ابن صخر ، عن زيد الرقاشى ، وهو ضعيف … وقال البقاعى وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود - وقد أخبرنى بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك فى حق داود - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه . إذا فهذه القصص وتلك الأقوال غير صحيحة من ناحية النقل ، لأن رواتها معروفون بالضعف . وبالنقل عن الإِسرائيليات . ويروى أن الإِمام عليا - رضى الله عنه - قال " من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة ، وهو حد الفرية على الأنبياء " . وهى غير صحيحة من ناحية العقل ، لأنه ليس من المعقول أن يمدح الله - تعالى - نبيه داود هذا المدح فى أول الآيات وفى آخرها كما سبق أن أشرنا ، ثم نرى بعد ذلك من يتهمه بأنه أعجب بامرأة ، ثم تزوجها بعد أن احتال لقتل زوجها ، بغير حق . أو طلب منه التنازل له عنها ، أو خطبها على خطبته . إن هذه الأفعال يتنزه عنها كثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء ، فكيف يفعلها واحد من أعلام الأنبياء . هو داود - عليه السلام - الذى مدحه الله - تعالى - بالقوة فى دينه . وبكثرة الرجوع إلى ما يرضى الله - تعالى - ، وبأنه - سبحانه - آتاه الحكمة وفصل الخطاب . وبأن له عند ربه { لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } . والخلاصة أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها . قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود . وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم . ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء . فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل ، وزاد فى القرآن ما ليس فيه … لأن الله - تعالى - يقول { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ } فقال هو لم يكونوا خصمين . ولا بغى بعهضم على بعض . ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة . ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له { أَكْفِلْنِيهَا … } . 4 - هذا وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات . منها أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر . قال الإِمام الرازى ما ملخصه لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ … } فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل . والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر . قال صاحب الكشاف فإن قلت كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه ؟ . قلت ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم ، ويروى أنه قال أريد أخذها منه وأكمل نعاجى مائة فقال داود إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا . وأشار إلى طرف الأنف والجبهة … ومنهم من يرى ، أن استغفار داود - عليه السلام - كان سببه أن قوما من الأعداء أرادوا قتله ، فتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه لقصد قتله وجدوا عنده أقواما . فلم يستطيعوا تنفيذ ما قصدوه ، وتصنعوا هذه الخصومة فعلم داود قصدهم ، وعزم على الانتقام منهم ، ثم عفا عنهم ، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه ، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام . وهذا القول - وإن كان لا بأس به من حيث المعنى - إلا ان الرأى الذى سقناه سابقا ، والذى ذهب إليه الإِمام أبو حيان ، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات . وملخصه أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر ، واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن . فغفر الله - تعالى - له . ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب ، فى تفسير هذه الآيات الكريمة ، التى ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولا يليق بمسلم أن يصدقها ، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين اختارهم الله - تعالى - لتبليغ دعوته ، وحمل رسالته . وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له - سبحانه - وإلى مكارم الأخلاق ، وحميد الخصال . ثم بين - سبحانه - أنه لم يخلق السموات والأرض عبثا ، وأن حكمته اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار ، وأن هذا القرآن قد أنزله - سبحانه - لتدبير آياته ، والعمل بتوجيهاته فقال - تعالى - { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ … } .