Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-40)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فى هذه الآيات الكريمة مسألتان ذكر بعض المفسرين فيهما كلاما غير مقبول . أما المسألة الأولى فهى مسألة عرض الخيل على سيدنا سليمان والمقصود به . وأما المسألة الثانية فهى مسألة المقصود بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ … } . وسنسير فى تفسير هذه الآيات على الرأى الذى تطمئن إلى صحته نفوسنا ، ثم نذكر بعده بعض الأقوال التى قيلت فى هذا الشأن ، ونرد على ما يستحق الرد منه ، فنقول - وبالله - التوفيق - المخصوص بالمدح فى قوله - تعالى - { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } محذوف ، والمقصود به سليمان - عليه السلام - . أى ووهبنا - بفضلنا وإحساننا - لعبدنا داود ابنه سليمان - عليهما السلام - ونعم العبد سليمان فى دينه وفى خلقه وفى شكره لخالقه - تعالى - . وجملة { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليل لهذا المدح من الله - تعالى - لسليمان - عليه السلام - أى إنه رجاع إلى ما يرضى الله - تعالى - مأخوذ من آب الرجل إلى داره ، إذا رجع إليها . و " إذ " فى قوله { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } منصوب بفعل تقديره اذكر ، و " عليه " متعلق بعُرِض و " العشى " يطلق على الزمان الكائن من زوال الشمس إلى آخر النهار . وقيل إلى مطلع الفجر . والصافنات جمع صافن ، والصافن من الخيل الذى يقف على ثلاثة أرجل ويرفع الرابعة فيقف على مقدم حافرها . والجياد جمع جواد ، وهو الفرس السريع العدو ، الجيد الركض ، سواء أكان ذاكراً أم أنثى ، يقال جاد الفرس يجود جُودَة فهو جواد ، إذا كان سريع الجرى ، فاره المظهر … أى اذكر - أيها العاقل - ما كان من سليمان - عليه السلام - وقت أن عرض عليه بالعشى الخيول الجميلة الشكل . السريعة العدو . قال صاحب الكشاف فإن قلت . ما معنى وصفها بالصفون ؟ قلت الصفون لا يكاد يوجد فى الهجن ، وإنما هو فى - الخيل - العراب الخلص وقيل وصفها بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية ، يعنى إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا فى جريها … ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان - عليه السلام - خلال استعراضه للخيول الصافنات الجياد على سبيل الشكر لربه ، فقال - تعالى - { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } . والخير يطلق كثيرا على المال الوفير ، كما فى قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } والمراد به هنا الخيل الصافنة الجيدة ، والعرب تسمى الخيل خيرا ، لتعلق الخير بها ، روى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " . و { عن } هنا تعليلية . والمراد بـ { ذِكْرِ رَبِّي } طاعته وعبادته والضمير فى قوله { حَتَّىٰ تَوَارَتْ } يعود إلى الخيل الصافنات الجياد ، والمراد بالحجاب ظلام الليل الذى يحجب الرؤية . والمعنى فقال سليمان وهو يستعرض الخيل أو بعد استعراضه لها إنى أحببت استعراض الصافنات الجياد ، وأحببت تدريبها وإعدادها للجهاد ، من أجل ذكر ربى وطاعته وإعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، وقد بقيت حريصا على استعراضها وإعدادها للقتال فى سبيل الله ، حتى توارت واختفت عن نظرى بسبب حلول الظلام الذى يحجب الرؤية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } أى قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىَّ مرة أخرى ، لأزداد معرفة بها ، وفهما لأحوالها … والفاء فى قوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } فصيحة تدل على كلام محذوف يفهم من السياق . و " طفق " فعل من أفعال الشروع يرفع الاسم وينصب الخبر ، واسمه ضمير يعود على سليمان ، و " مسحا " مفعول مطلق لفعل محذوف . والسوق والأعناق جمع ساق وعنق . أى قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىّ ، فردوها عليه ، فأخذ فى مسح سيقانها وأعناقها إعجابا بها ، وسرورا بما هى عليه من قوة هو فى حاجة إليها للجهاد فى سبيل الله - تعالى - . هذا هو التفسير الذى تطمئن إليه نفوسنا لهذه الآيات ، لخلوه من كل ما يتنافى مع سمو منزلة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . ولكن كثيرا من المفسرين نهجوا نهجا آخر ، معتمدين على قصة ملخصها أن سليمان - عليه السلام - جلس يوما يستعرض خيلا له ، حتى غابت الشمس دون أن يصلى العصر ، فحزن لذلك وأمر بإحضار الخيل التى شغله استعراضها عن الصلاة ، فأخذ فى ضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، قربة لله - تعالى - . فهم يرون أن الضمير فى قوله - تعالى - { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } يعود إلى الشمس . أى حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار . وأن المراد بقوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } الشروع فى ضرب سوق الخيل وأعناقها بالسيقف لأنها شغلته عن صلاة العصر . قال الجمل { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } أى جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف . هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين . ولم يرتض الإِمام الرازى - رحمه الله - هذا التفسير الذى عليه أكثر المفسرين ، وإنما ارتضى أن الضمير فى { توارت } يعود إلى الصافنات الجياد وأن المقصود بقوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } الإِعجاب بها والمسح عليها بيده حبّاً لها … فقد قال ما ملخصه إن رباط الخيل كان مندوبا إليه فى دينهم ، كما أنه كذلك فى دين الإِسلام ، ثم إن سليمان - عليه السلام - احتاج إلى الغزو . فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها . وذكر أنى لا أحبها لأجل الدنيا وإنما أحبها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه . وهو المراد من قوله { عَن ذِكْرِ رَبِّي } ثم إنه - عليه السلام - أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أى غابت عن بصره . ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها . والغرض من ذلك التشريف لها لكونها من أعظم الأعوان فى دفع العدو … وإظهار أنه خبير بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض … وقال بعض العلماء نقلا عن ابن حزم تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة … قد جمعت أفانين من القول لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها . وإتلاف مال منتفع به بلا معنى . ونسبة تضييع الصلاة إلى نبى مرسل . ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها … وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير ، من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها . ثم أمر بردها . فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برا بها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذى لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة … والحق أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن سليمان - عليه السلام - شغل باستعراض الخيل عن صلاة العصر ، وأنه أمر بضرب سوقها وأعناقها … لا دليل عليه لا من النقل الصحيح ولا من العقل السليم … وأن التفسير المقبول للآية هو ما ذكره الإِمام الرازى والإِمام ابن حزم ، وما سبق أن ذكرناه من أن المقصود بقوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } إنما هو تكريمها … وأن الضمير فى قوله { حَتَّىٰ تَوَارَتْ } يعود إلى الصافنات لأنه أقرب مذكور . ثم تحدثت الآيات الكريمة بعد ذلك عن فتنة سليمان - عليه السلام - فقال - تعالى - { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ … } وقوله { فَتَنَّا } من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان . تقول فتنت الذهب بالنار ، أى اختبرته لتعلم جودته … قال الآلوسى وأظهر ما قيل فى فتنة سليمان - عليه السلام - أنه قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . تأتى كل واحدة بفارس يجاهد فى سبيل الله - تعالى - ولم يقل إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل . وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة مرفوعا ، وفيه " فوالذي نفس محمد بيده لو قال إنْ شاء الله لجاهدوا فرساناً " . ولكن الذى فى صحيح البخارى أربعين بدل سبعين . وأن الملك قال له قل إن شاء الله ، فلم يقل - أى فلم يقل ذلك على سبيل النسيان . . والمراد بالجسد ذلك الشق الذى ولدته له . ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه . وقد ذكروا أن سليمان إنما قال " تحمل كل امرأة فارسا يجاهد فى سبيل الله " على سبيل التمنى للخير ، وطلب الذرية الصالحة المجاهدة فى سبيل الله . ومعنى " فلم يقل " أى بلسانه على سبيل النسيان ، والنسيان معفو عنه ، إلا أن سليمان - عليه السلام - لسمو منزلته اعتبر لك ذنبا يستحق الاستغفار منه ، فقال بعد ذلك " رب اغفر لى … " وقوله " لأطوفن الليلة … " كناية عن الجماع ، قالوا ولعل المقصود . طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة ، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال . وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن فتنة سليمان ، هى تركه تعليق ما طلبه على مشيئة الله ، وأن عقابه على ذلك كان عدم تحقق ما طلبه . وهذا الرأى فى تقديرنا هو الرأى الصواب فى تفسير الآية الكريمة لأنه مستند إلى حديث صحيح ثابت فى الصحيحين وفى غيرهما ، ولأنه يتناسب مع عصمة الأنبياء وسمو منزلتهم ، فإن النسيان الذى لا يترتب عليه ترك شئ من التكاليف التى كلفهم الله - تعالى - بها جائز عليهم . وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً . إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أن الوحى مكث فترة لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نسى أن يقول - عندما سأله المشركون عن بعض الأشياء إن شاء الله ، وقال سأجيبكم على ما سألتمونى عنه غدا . ومن العلماء من آثر عدم تعيين الفتنة التى اختبر الله - تعالى - بها سيدنا سليمان - عليه السلام - ، بتركه المشيئة ، فقال بعد أن ذكر الحديث السابق وجائز أن تكون هذه الفتنة التى تشير إليها الآيات هنا وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال . ثم قال وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبى الله سليمان - عليه السلام - فى شأن يتعلق بتصرفاته فى الملك والسلطان ، كما يبتلى الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل ، وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع . وطلب المغفرة ، واتجه إلى الله بالرجاء والدعاء … ونرى أنه رأى لا بأس به ، وإن كنا نؤثر عليه الرأى السابق لاستناده فى استنباط المراد من الفتنة هنا إلى الحديث الصحيح . هذا . وهناك أقوال أخرى ذكروها فى المقصود بفتنة سليمان وبالجسد الذى ألقاه الله على كرسى سليمان ، وهى أقوال ساقطة ، تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم السلام - . ومن هذه الأقوال قول بعضهم إن الجسد الذى ألقى على كرسى سليمان ، عبارة عن شيطان تمثل له فى صورة إنسان ، ثم أخذ من سليمان خاتمه الذى كان يصرف به ملكه . وقعد ذلك الشيطان على كرسى سليمان ، ولم يعد لسليمان ملكه إلا بعد أن عثر على خاتمه . وقول بعضهم إن سبب فتنة سليمان - عليه السلام - هو سجود إحدى زوجاته لتمثال أبيها الذى قتله سليمان فى إحدى الحروب ، وقد بقيت على هذه الحال هى وجواريها أربعين ليلة ، دون أن تعلم سليمان بذلك . وقول بعضهم إن سبب فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ولد فخاف عليه من الشياطين ، فأمر السحاب بحفظه وتغذيته . ولكن هذا الولد وقع ميتا على كرسى سليمان ، فاستغفر سليمان ربه لأنه لم يعتمد عليه فى حفظ ابنه . إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة الباطلة ، التى تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وتتنافى - أيضا - مع كل عقل سليم ، ولا مستند لها إلا النقل عن الإِسرائيليات وعن القصاص الذين يأتون بقصص ما أنزل الله بها من سلطان . قال أبو حيان - رحمه الله - نقل المفسرون فى هذه الفتنة وفى إلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها فى كتبهم ، وهى مما لا يحل نقلها ، وهى إم من أوضاع اليهود ، أو الزنادقة ، ولم يبين الله - تعالى - الفتنة ما هى ، ولا الجسد الذى ألقاه على كرسى سليمان . وأقرب ما قيل فيه ، أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن فى الحديث الذى قال فيه لأطوفن الليلة على سبعين امرأة … والجسد الملقى هو المولود شق رجل … وقوله - سبحانه - { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ … } بيان لما قاله سليمان - عليه السلام - بعد الابتلاء والاختبار من الله - تعالى - له . أى قال سليمان - عليه السلام - يا رب اغفر لى ما فرط منى من ذنوب وزلات … { وَهَبْ لِي مُلْكاً } عظيما { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } أى لا يحصل مثله لأحد من الناس من بعدى { إِنَّكَ أَنتَ } يا إلهى { ٱلْوَهَّابُ } أى الكثير العطاء لمن تريد عطاءه . وقدم سليمان - عليه السلام - طلب المغفرة على طلب الملك ، للإِشارة إلى أنها هى الأهم عنده . قال الإِمام الرازى - رحمه الله - دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم بعدها طلب المملكة ، وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله - تعالى - سبب لانفتاح أبواب الخيرات فى الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة . ولا يقال كيف طلب سليمان - عليه السلام - الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم لأن سليمان - عليه السلام - ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله فى الأرض ، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها ، ونشر العدالة بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، وإعانة المحتاج . وتنفيذ شرع الله - تعالى - على الوجه الأكمل . فهو - عليه السلام - لم يطلب الملك للظلم أو البغى … وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله - تعالى - فى الأرض . ولقد وضح الإِمام القرطبى هذا المعنى فقال كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله - تعالى - … ؟ فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله - تعالى - وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده ، والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته … وحوشى سليمان - عليه السلام - أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا . لأنه هو والأنبياء ، أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله . كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك . ومعنى قوله { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } أى أن يسأله . فكأنه سأل منه السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإِجابة … والفاء فى قوله - تعالى - { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } للتفريع على ما تقدم من طلب سليمان من ربه أو يهبه ملكا لا ينبغى لأحد من بعده . والتسخير التذليل والانقياد . أى دعانا - سليمان - عليه السلام والتمس منا أن نعطيه ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، فاستجبنا له دعاءه ، وذللنا له الريح ، وجعلناها منقادة لأمره بحيث تجرى بإذنه رخية لينة ، إلى حيث يريدها أن تجرى . وقوله { تَجْرِي } حال من الريح . وقوله { بِأَمْرِهِ } من إضافة المصدر لفاعله . أى بأمره إياها . ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله - تعالى - فى آية أخرى { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا … } لأن المقصود من الآيتين بيان أن الريح تجرى بأمر سليمان ، فهى تارة تون لينة وتارة تكون عاصفة ، وفى كلتا الحالتين هى تسير بأمره ورغبته . وقوله { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } معطوف على الريح أى سخرنا له الريح تجرى بأمره … وسخرنا له الشياطين . بأن جعلناهم منقادين لطاعته ، فمنهم من يقوم ببناء المبانى العظيمة التى يطلبها سليمان منهم . ومنهم الغواصون الذين يغوصون فى البحار ليستخرجوا له منها اللؤلؤ والمرجان ، وغير ذلك من الكنوز التى اشتملت عليها البحار . وقوله - سبحانه - { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } معطوف على كل بناء ، داخل معه فى حكم البدل من الشياطين . أى أن الشياطين المسخرين لسليمان كان منهم البناءون ، وكان منهم الغواصون ، وكان منهم المقيدون بالسلاسل والأغلال ، لتمردهم وكثرة شرورهم . فمعنى { مقرنين } مقرونا بعضهم ببعض بالأغلال والقيود . والأصفاد جمع صَفَد وهو ما يوثق به الأسير من قيد وغُلّ . ثم بين - سبحانه - أنه أباح لسليمان - عليه السلام - أن يتصرف فى هذا الملك الواسع كما يشاء فقال { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا } أى منحنا هذا الملك العظيم لعبدنا سليمان - عليه السلام - وقلنا له هذا عطاؤنا لك { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أى فأعط من شئت منه . وأمسك عمن شئت . فأن غير محاسب منا لا على العطاء ولا على المنع . ثم بين - سبحانه - ما أعده لسليمان - عليه السلام - فى الآخرة ، فقال { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا } أى فى الآخرة { لَزُلْفَىٰ } لقرابة وكرامة { وَحُسْنَ مَآبٍ } أى وحسن مرجع إلينا يوم القيامة . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أيوب - عليه السلام - فذكرت نداءه لربه ، واستجابة الله - تعالى - له وما وهبه من نعم جزاء صبره ، فقال - تعالى - { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ … } .