Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 10-16)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الصادقين داوموا على الخوف من ربكم ، وعلى صيانة أنفسكم من كل ما يغضبه . وفى التعبير بقوله - تعالى - { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } دون قوله قل لعبادى الذين آمنوا … تكريم وتشريف لهم ، لأنه - سبحانه - أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناديهم بهذا النداء الذى فيه ما فيه من التكريم لهم ، حيث أضافهم إلى ذاته - تعالى - وجعل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هى التبليغ عنه - عز وجل - . قال الآلوسى قوله - تعالى { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة ، إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب ، وفيه إيذان بأنهم هم . أى قل لهم قولى هذا بعينه ، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، فإن نقل عين أمر الله - تعالى - أدخل فى إيجاب الامتثال به . وجملة { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } تعليل لوجوب الامتثال لما أمره به من تقوى الله - تعالى - والاستجابة لإِرشاداته . وقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وقوله { فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } بقوله أحسنوا ، وقوله { حَسَنَةٌ } مبتدأ مؤخر . أى للذين أحسنوا فى هذه الدنيا أقوالهم وأعمالهم … حسنة عظيمة فى الآخرة ، ألا وهى جنة عرضها السموات والأرض . وقوله - تعالى - { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } جملة معترضة لإزاحة ما عسى أن يتعللوا به من أعذار ، إذا ما حملهم البقاء فى أوطانهم على التفريط فى أداء حقوق الله . قال صاحب الكشاف ومعنى { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } أن لا عذر للمفرطين فى الإِحسان ألبتة ، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإِحسان ، وصرف الهمم إليه قيل لهم فإن أرض الله واسعة ، وبلاده كثيرة ، فلا تجتمعوا مع العجز ، وتحولوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين فى مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ . كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الصابرين فقال { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أى إنما يوفى الصابرون على مفارقة الأوطان ، وعلى تحمل الشدائد والمصائب فى سبيل إعلاء كلمة الله … يوفون أجرهم العظيم كل ذلك بغير حساب من الحاسبين . لأنهم لا يستطيعون معرفة ما أعده - سبحانه - لهؤلاء الصابرين من عطاء جزيل ، ومن ثواب عظيم ، وإنما الذى يعرف ذلك هو الله - تعالى - وحده . قال الإِمام الشوكانى أى يوفيهم الله أجرهم فى مقابلة صبرهم بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب . والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له ، لأن كل شئ يدخل تحت الحساب فهو متناه ، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه . وهى فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة ، تقتضى أن على كل راغب فى ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير ، أن يتوفر على الصبر ، ويزم نفسه بزمامه ، ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيرا قد سلب ، ولا يدفع مكروها قد وقع … ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمره به خالقه فقال { إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } أى قل لهم يا محمد إني أمرت من قبل الله - عز وجل - أن أعبده عبادة خالصة لا مجال معها للشرك أو الرياء ، أو غير ذلك مما يتنافى مع الطاعة التامة لخالقى - سبحانه - . { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أى أمرنى ربى بأن أخلص له العبادة إخلاصا تاما وكاملا ، لكى أكون على رأس المسلمين وجوههم له ، حتى يقتدى بى الناس فى إخلاصى وطاعتى له - عز وجل - . قال - تعالى - { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } وقوله - سبحانه - { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } بيان لسوء عاقبة الشرك والمشركين . أى وقل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى أخاف إن عصيت ربى ، فلم أخلص له العبادة والطاعة ، عذاب يوم عظيم الأهوال شديد الحساب ، وهو يوم القيامة ، ولذلك فأنا لشدة خوفى من عذاب خالقى ، أكثرهم إخلاصا له - عز وجل - وامتثالا لأمره ، ومحافظة على طاعته . { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } أى وقل لهم - أيضا - الله - تعالى - وحده هو الذى أعبده عبادة لا يحوم حولها شرك ، ولا يخالطها شئ من الرياء أو التكلف . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس بأساليب متنوعة ، أنه لن يتراجع عن طاعته التامة لربه ، وأن عليهم أن يتأسوا به فى ذلك . قال الجمل أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أولا بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإِخلاص فيها ، وثانيا بأن يخبرهم بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم . وثالثا بأن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان . ورابعا بأن يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله - تعالى - وأخلص له الدين على أبلغ وجه وآكده ، إظهارا لتصلبه فى الدين ، وحسما لأطماعهم الفارغة ، وتمهيدا لتهديدهم بقوله { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ . … } فالأمر فى قوله - تعالى - { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ … } للتهديد والتقريع والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والمعنى إذا كان الأمر كما ذكرت لكم - أيها المشركون - من أنى أول المسلمين وجوههم لله - تعالى - وحده ، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه - عز وجل - فسترون عما قريب سوء عاقبة شرككم وجحودكم لنعم الله - تعالى - . وقوله { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } بيان لسوء عاقبة من أعرض عن دعوة الحق ، وقوله { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ … } خبر إن . أى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ليس الخاسرون هم الذين أخلصوا عبادتهم لله - تعالى - وحده - كما زعمتم - وإنما الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، بسبب إلقائهم فى النار ، وحرمانهم من النعيم الذين أعده الله - تعالى - لعباده المؤمنين . وقال - سبحانه - خسروا أنفسهم وأهليهم للإِشعار بأن هؤلاء المشركين لم يخسروا أنفسهم فقط بسبب دخولهم النار ، وإنما خسروا فوق ذلك أهليهم لأنهم حيل بينهم وبين أهليهم ، لأن أهلهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده . وجملة { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } مستأنفة لتأكيد ما قبلها ، وتصديرها بحرف التنبيه ، للإِشعار بأن هذا الخسران الذى حل بهم قد بلغ الغاية والنهاية فى بابه . وقوله - سبحانه - { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ … } تفصيل لهذا الخسران بعد تهويله عن طريق الإِبهام والإِجمال . والظلل جمع ظلة ، وأصلها السحابة التى تظل ما تحتها ، والمراد بها هنا طبقات النار التى تكون من فوقهم ومن تحتهم . وأطلق عليها هذا الاسم من باب التهكم بهم ، إذ الأصل فى الظل أنها تقى من الحر ، بينما الظلل التى فوق المشركين وتحتهم محرقة . أى هؤلاء المشركين طبقات من النار من فوقهم ، وطبقات أخرى من النار من تحتهم ، فهم محاطون بها من كل جانب ، ولا يستطيعون التفلت منها . قال الجمل فى حاشيته " فإن قلت الظلة ما فوق الإِنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة ؟ قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر . والثانى أن الذى تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته فى النار لأنها دركات . الثالث أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة الفوقانية فى الإِيذاء والحرارة ، سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة " . واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ … } يعود إلى العذاب الشديد الذى أعده - سبحانه - لأولئك المشركين . أى ذلك العذاب الشديد يخوف الله - تعالى - به عباده ، حتى يحذروا ما يوصل إليه ، ويجتنبوا كل قول أو فعل من شأنه أن يفضى إلى النار . وقوله { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } نداء منه - تعالى - للناس يدل على رحمته بهم ، وفضله عليهم ، أى عليكم يا عبادى أن تلتزموا طاعتى ، وتجتنبوا معصيتى ، لكى تنالوا رضائى وجنتى ، وتبتعدوا عن سخطى ونارى . وإلى هنا نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت الصابرين بالعطاء الذى لا يعلم مقدار فضله إلا الله - تعالى - ، وأمرت بإخلاص العبادة لله - سبحانه - بأساليب متنوعة ، وحذرت المشركين من سوء المصير إذا ماستمروا فى شركهم وكفرهم . وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للخاسرين من عذاب أليم ، أتبع ذلك ببيان ما أعده للمتقين من نعيم مقيم ، فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ … }