Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 36-46)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمراد بالصرح فى قوله - تعالى - { وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً … } البناء العالى المكشوف للناس ، الذى يرى الناظر من فوقه ما يريد أن يراه ، مأخوذ من التصريح بمعنى الكشف والإيضاح . والأسباب جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى الشئ ، والمراد بها هنا أبواب السماء وطرقها ، التى يصل منها إلى ما بداخلها . أى وقال فرعون لوزيره هامان يا هامان ابن لى بناء ظاهرا عاليا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن كان بعيدا عنه ، لعلى عن طريق الصعود على هذا البناء الشاهق أبلغ الأبواب الخاصة بالسموات ، فأدخل منها فأنظر إلى إله موسى . والمراد بالظن فى قوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } اليقين لقوله - تعالى - فى آية أخرى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } فقوله - كما حكى القرآن عنه - { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } قرينة قوية على أن المراد بالظن فى الآيتين اليقين والجزم ، بسبب غروره وطغيانه . أى وإنى لأعتقد وأجزم بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا . وكرر لفظ الأسباب لأن اللفظ الثانى يدل على الأول ، والشئ إذا أبهم ثم أوضح ، كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها . وقوله { فأطلع } قرأه الجمهور بالرفع عطفا على { أبلغ } فيكون فى حيز الترجى . وقرأه بعض القراء السبعة بالنصب فيكون جوابا للأمر فى قوله { ٱبْنِ لِي صَرْحاً … } . ولا شك أن قول فرعون هذا بجانب دلالته على أنه بلغ الغاية فى الطغيان والفجور والاستخفاف بالعقول ، يدل - أيضا - على شدة خداعه ، إذ هو يريد أن يتواصل من وراء هذا القول إلى أنه ليس هناك إله سواه لشاهده هو وغيره من الناس . قال الإِمام ابن كثير وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح ، الذى لم ير فى الدنيا بناء أعلى منه ، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما قاله ، من أن هناك إلها غير فرعون … وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه وقول فرعون هذا المقصود منه التلبيس والتمويه والتخليط على قومه توصلا لبقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعرف حقيقة الإِله ، وأنه ليس فى جهة ، ولكنه أراد التلبيس ، فكأنه يقول لهم لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره فى الأرض ، فيبقى أن يكون فى السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم … ثم بين - سبحانه - أن مكر فرعون هذا مصيره إلى الخسران فقال { وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } . والتباب الهلاك والخسران ، يقال تب الله - تعالى - فلانا ، أى أهلكه ، وتبت يدا فلان ، أى خسرتا ومنه قوله - سبحانه - { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ … } أى ومثل ذلك التزيين القبيح ، زين لفرعون سوء عمله ، فرآه حسنا ، لفجوره وطغيانه ، وصد عن سبيل الهدى والرشاد ، لأنه استحب العمى على الهدى . وما كيد فرعون ومكره وتلبيسه واحتياله فى إبطال الحق ، إلا فى هلاك وخسران وانقطاع . ثم حكى القرآن الكريم أن الرجل المؤمن قد تابع حديثه ونصائحه لقومه ، بعد أن استمع إلى ما قاله فرعون من باطل وغرور فقال { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ … } أى فيما أنصحكم به ، وأرشدكم إليه . { أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } أى اتبعونى فيما نصحتكم به ، فإن فى اتباعكم لى هدايتكم إلى الطريق الذى كله صلاح وسعاده وسداد . أما اتباعكم لفرعون فيؤدى بكم إلى طريق الغىا والضلال . { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ … } أى هذه الدنيا متاع زائل مهما طالت أيامه … { وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ } وحدها { هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } أى هى الدار التى فيها البقاء والدوام والخلود . { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً } فى هذه الدنيا { فَلاَ يُجْزَىٰ } فى الآخرة { إِلاَّ مِثْلَهَا } كرما من الله - تعالى - وعدلا . { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله - تعالى - إيمانا حقا . { فَأُوْلَـٰئِكَ } المؤمنون الصادقون { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أىيرزقون فيها رزقا واسعا هنيئا ، لا يعلم قدره إلا الله - تعالى - ، ولا يحاسبهم عليه محاسب فقد تفضل - سبحانه - على عباده . أن يضاعف لهم الحسنات دون السيئات . ثم استنكر موقف قومه منه فقال { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ } من العذاب الدنيوى والأخروى ، بأن آمركم بالإيمان والعمل الصالح ، وأنهاكم عن قتل رجل يقول ربى الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم وهو موسى - عليه السلام - . وأنتم { وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } أى تدعوننى لما يوصل إلى النار وهو عبادة غير الله - تعالى - ، والموافقة على قتل الصالحين أو إيذائهم … قال صاحب الكشاف فإن قلت لم كرر نداء قومه ؟ ولم جاء بالواو فى النداء الثالث دون الثانى ؟ قلت أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم ، وإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه أنهم قومه وعشيرته … ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزن لهم ، ويتلطف بهم ، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه - فإن سرورهم سروره ، وغمهم غمه - وأن ينزلوا على تنصيحه لهم ، كما كرر إبراهيم - عليه السلام - فى نصيحة أبيه قوله { يٰأَبَتِ } فى سورة مريم . وأما المجئ بالواو العاطفة فى النداء الثالث دون الثانى ، فلأن الثانى داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له فأعطى الداخل عليه حكمه فى امتناع دخول الواو . وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة . وقوله { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ … } بدل من قوله { وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } وتفسير وبيان له . أى أنا أدعوكم إلى النجاة من النار ، وأنتم تدعوننى إلى الإِشراك بالله - تعالى - وإلى الكفر به ، مع أنى أعلم علم اليقين أنه - سبحانه - لا شريك له ، لا فى ذاته ولا فى صفاته . وقوله { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ } بيان للفرق الشاسع بين دعوته لهم ودعوتهم له . فهم يدعونه إلى الشرك والكفر ، وإلى عبادة آلهة قد قام الدليل القاطع على بطلانها ، وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، الغالب لكل ما سواه ، الواسع المغفرة لمن تاب إليه بعد أن عصاه … ثم يؤكد لهم بصورة لا تقبل الشك أو التردد أنما يطلبونه منه هو الباطل وأن ما يطلبه منهم هو الحق فيقول { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ … } وجرم فعل ماض بمعنى حق وثبت ووجب . وقد وردت هذه الكلمة فى القرآن فى خمسة مواضع ، وفى كل موضع جاءت متلوة بأنّ واسمها . وجمهور النحاة على أنها مركبة من " لا " و " جرم " تركيب خمسة عشر . ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل حق وثبت ، والجملة بعدها هى الفاعل لهذا الفعل … ومن النحاة من يرى أن " لا " نافية للجنس ، و " جرم " اسمها ، وما بعدها خبرها . أى حق وثبت لدى بما لا يقبل الشك ، أن آلهتكم التى تدعوننى لعبادتها آلهة باطلة ، لا وزن لها ولا قيمة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة … { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ } جميعا { إِلَى ٱللَّهِ } - تعالى - وحده { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ } أى المستكثرين من المعاصى فى الدنيا { هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } فى الآخرة . ثم نصح نصائحه الحكيمة الغالية بقوله فستذكرون يا قوم ما أقول لكم من حق وصدق . { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } - تعالى - وحده لكى يعصمنى من كل سوء . { إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } لا يخفى عليه شئ من أقوالهم أو أفعالهم ، وسيجازى يوم القيامة كل نفس بما كسبت . وقوله - تعالى - { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } بيان للعاقبة الطيبة التى أكرمه الله - سبحانه - بها بعد صدوعه بكلمة الحق أمام فرعون وجنده … أى فكانت نتيجة إيمان هذا الرجل ، وجهره بكلمة الحق ، ونصحه لقومه ، أن وقاه الله - تعالى - ما أراده الظالمون به من أذى وعدوان ومن مكر سيئ … { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ } أى ونزل وأحاط بفرعون وقومه { سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } بأن أغرقهم الله - تعالى - فى أليم ، وجعلهم عبرة لمن يعتبر . ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم بعد موتهم ، وعند قيام الساعة ، فقال { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } … والغدو أول النهار . والعشى آخره . وجملة { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا … } بدل من قوله - تعالى - { سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } . بعرض أرواح فرعون وملئه على النار بعد موتهم وهم فى قبورهم فى الصباح والمساء ، { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ } يقال لملائكة العذاب { أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } وهو عذاب جهنم وبئس المصير مصيرهم . قال القرطبى والجمهور على أن هذا العرض فى البرزخ واحتج بعض أهل العلم فى تثبيت عذاب القبر بقوله - تعالى - { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ما دامت الدنيا … قال مجاهد وغيره هذه الآية تدل على عذاب القبر فى الدنيا ألا تراه يقول - سبحانه - عن عذاب الآخرة { أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } وفى الحديث عن ابن مسعود إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار ، تعرض على النار بالغداة والعشى ، فيقال هذه داركم … هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة ، يرى أن القرآن قد ساق على لسان مؤمن آل فرعون ، أسمى الأساليب وأحكمها فى الدعوة إلى الحق ، فقد بدأ نصحه بنهى قومه عن قتل موسى - عليه السلام - ثم ذكرهم بنعم الله عليهم ، وبسوء عاقبة الظالمين ، وبأن نعيم الدنيا زائل ، أما نعيم الآخره فباق ، وبأن ما يدعوهم إليه هو الحق ، وبأن ما يدعونه إليه هو الباطل . ثم ختم تلك النصائح الغالية بتفويض أمره إلى الله فقال { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } فكانت نتيجة هذا التفويض ، أن وقاه الله - تعالى - من سوء مكر أعدائه ، ونجاه من شرورهم ، وأن جعل مكرهم السيئ يحيق بهم . ثم حكى - سبحانه - جانبا مما يدور بين أهل النار من مجادلات ، وكيف أن كل فريق منهم يطلب من الملائكة تخفيف العذاب عنه ، ولكن لا يجابون إلى طلبهم ، ولا تقبل معذرتهم ، وأن سنة الله قد اقتضت أن ينصر عباده الصالحين فى الدنيا والآخرة قال - تعالى - { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ … } .