Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 13-16)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الفخر الرازى أعلم أنه - تعالى - لما عظم وحيه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } ذكر فى هذه الآية تفصيل ذلك فقال { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً … } . أى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى … وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء ، وأصحاب الشرائع العظيمة ، والأتباع الكثيرة . والمراد بما شرعه - سبحانه - على ألسنة هؤلاء الرسل أصول الأديان التى لا يختلف فيها دين عن دين ، أو شريعة عن شريعة ، كإخلاص العبادة لله - تعالى - والإِيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر ، والتحلى بمكارم الأخلاق كالصدق والعفاف . أما ما يتعلق بفروع الشرائع ، كتحليل بعض الطيبات لقوم على سبيل التيسير لهم ، وتحريمها على قوم على سبيل العقوبة لهم فهذا لا يدخل فى الأصول الثابتة فى جميع الأديان ، وإنما يختلف باختلاف الظروف والأحوال . ويؤيد ذلك قوله - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وقوله - سبحانه - حكاية عن عيسى - عليه السلام - { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } والمعنى سن الله - تعالى - لكم يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من العقائد ومكارم الأخلاق ، ما سنه لنوح - عليه السلام - الذى هو أول أولى العزم من الرسل ، وأول أصحاب الشرائع الجامعة . وشرع الله - تعالى - لكم أيضا ما أوحاه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من آداب وأحكام وأوامر ونواه . وشرع لكم كذلك ما وصى به - سبحانه - أنبياءه إبراهيم وموسى وعيسى ، من وصايا تتعلق بوجوب طاعة الله - تعالى - ، وإخلاص العبادة له ، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم . وقوله - سبحانه - { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } تفصيل وتوضيح لما شرعه - سبحانه - لهؤلاء الكرام ، ولما أوصاهم به . والمراد بإقامة الدين التزام أوامره ونواهيه ، وطاعة الرسل فى كل ما جاءوا به من عند ربهم طاعة تامة . قال صاحب الكشاف والمراد إقامة دين الإِسلام الذى هو توحيد الله - تعالى - وطاعته ، والإِيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما ، ولم يرد الشرائع التى هى مصالح الأمم حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومحل { أَنْ أَقِيمُواْ } إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما الرفع على الاستئناف ، كأنه قيل وما ذلك المشروع ؟ فقيل هو إقامة الدين . أى أوصاكم كما أوصى من قبلكم بالمحافظة على ما اشتمل عليه دين الإِسلام من عقائد وأحكام وآداب . . وأصول أجمعت عليها جميع الشرائع الإِلهية ، كما أوصاكم بعدم الاختلاف فى أحكامه التى لا تقبل الاختلاف أو التفرق . ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من الدين الحق فقال { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } . أى شق وعظم على المشركين دعوتكم إياهم إلى وحدانية الله - تعالى - وإلى ترك ما ألفوه من شرك ، ومن تقاليد فاسدة ورثوها عن آبائهم . وقوله - تعالى - { ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } بيان لكمال قدرته - تعالى - ونفاذ مشيئته . والاجتباء الاصطفاء والاختيار . أى الله - تعالى - بإرادته وحكمته يصطفى ويختار لرسالته من يشاء من عباده ، ويهدى إلى الحق من ينيب إليه ، ويرجع إلى طاعته - عز وجل - ويقبل على عبادته . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت إلى اختلاف المختلفين فى أمر الدين ، وإلى تفرقهم شيعا وأحزابا فقال { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } . والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال والضمير فى قوله { تَفَرَّقُوۤاْ } يعود على كل الذين اختلفوا على أنبيائهم ، وأعرضوا عن دعوتهم . وقوله { بَغْياً } مفعول لأجله ، مبين السبب الحقيقى للتفرق والاختلاف . أى وما تفرق المتفرقون فى أمر الدين . وأعرضوا عما جاءتهم به رسلهم ، فى كل زمان ومكان ، إلا من بعد أن علموا الحق ، ووصل إليهم عن طريق أنبيائهم ، ولم يحملهم على هذا التفرق والاختلاف إلا البغى الذى استولى على نفوسهم ، والحسد لرسل الله - تعالى - على ما آتاهم الله من فضله . فقوله - تعالى - { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } زيادة فى ذمهم ، فإن الاختلاف بعد العلم ، أدعى إلى الذم والتحقير ، لأنه يدل على أن هذا الاختلاف لم يكن عن جهل ، وإنما كان عن علم وإصرار على الباطل . وقوله - تعالى - { بَغْياً بَيْنَهُمْ } زيادة أخرى تحمل كل عاقل على احتقارهم ونبذهم ، لأن هذه الجملة الكريمة تدل على أن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما كان الدافع إليه ، البغى والحسد والعناد . أى أن اختلافهم على أنبيائهم كان الدافع إليه الظلم وتجاوز الحد ، والحرص على شهوات الدنيا ولذائذها ، والخوف على ضياع شئ منها من بين أيديهم . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله ورحمته بهذه الأمة فقال { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } . والمراد بهذه الكلمة ما وعد الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أنه لن يهلك أمته بعذاب يستأصل شأفتهم ، كما أهلك قوم نوح وغيرهم ، ومن أنه - تعالى - سيؤخر عذابهم إلى الوقت الذى يختاره ويشاؤه - سبحانه - . أى ولولا كلمة سبقت من ربك - أيها الرسول الكريم - ، بعدم إهلاكهم بعقوبة تستأصل شأفتهم ، وبتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى فى علمه - تعالى - لقضى بينهم بقطع دابرهم بسبب هذا الاختلاف الذى أدى بهم إلى الإِعراض عن دعوتك ، وإلى عكوفهم على كفرهم . { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ } وهم أهل الكتاب المعاصرين لك من اليهود والنصارى { مِن بَعْدِهِمْ } أى من بعد الذين سبقوهم فى الاختلاف على أنبيائهم . { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أى لفى شك من هذا القرآن . ومن كل ما جئتهم به من عند ربك ، هذا الشك أوقعهم فى الريبة وقلق النفس واضطرابها وتذبذبها ، ولذلك لم يؤمنوا بما جئتهم به من عند ربك . ثم حض - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على المضى فى دعوته فقال { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ } . واسم الإِشارة يعود إلى ما سبق الحديث عنه من ذم التفرق ، ومن الأمر بإقامة الدين ، أى فلأجل ما أمرناك به من دعوة الناس إلى إقامة الدين وإلى النهى عن الاختلاف والتفرق ، من أجل ذلك فادع الناس إلى الحق الذى بعثناك به ، وإلى جمعهم على كلمة التوحيد ، التى تجعلهم يعيشون حياتهم آمنين مطمئنين . { وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } أى واستقم على الصراط الذى كلفناك بالسير على نهجه . والزم المنهج القويم الذى أمرناك بالتزامه . { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أى ولا تتبع شيئا من أهواء هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا . { وَقُلْ } لهم بكل ثبات وقوة { آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ } أى آمنت بكل ما أنزله - تعالى - من كتب سماوية ، فالمراد بالكتاب جنسه . { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أى وأمرنى ربى أن أعدل بينكم فى الحكم عند رفع قضاياكم إلىّ ، فإن العدل شريعة الله تعالى . { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أى الله - تعالى - وحده هو الخالق لنا ولكم ، وهو المنعم علينا وعليكم بالنعم التى لا تحصى . { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أى لنا أعمالنا التى سيحاسبنا الله عليها يوم القيامة ، ولكم أنتم أعمالكم التى ستحاسبون عليها ، فنحن لا نسأل عن أعمالكم وأنتم لا تسألون عن أعمالنا . { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أى لا احتجاج ولا خصومة بيننا وبينكم ، لأن الحق قد ظهر ، فلم يبق للجدال أو الخصام حاجة بيننا وبينكم . { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أى . الله - تعالى - يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة ، وإليه وحده ، مصيرنا ومصيركم ، وسيجازى كل فريق منا ومنكم بما يستحقه من جزاء . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على عشر جمل ، هذه الجمل الكريمة قد جاءت بأسمى ألوان الدعوة إلى الله - تعالى - بالحكمة والموعظة الحسنة . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يجادلون بالباطل فقال { وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } . وقوله { دَاحِضَةٌ } من الدحض بمعنى الزلل والزوال . وأصله الطين الذى لا تستقر عليه الأقدام . يقال دحضت رجل فلان ، إذا زلت وزلقت . أى والذين يخاصمون فى الله . فى دينه وشريعته ، { مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } أى من بعد أن استجاب العقلاء من الناس لهذا الدين الحق ، واتبعوا رسوله . { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أى حجة هؤلاء المجادلين بالباطل ، زائلة وزاهقة { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } لا يقادر قدره من ربهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } يوم القيام . ثم بين - سبحانه - حال الكافرين والمؤمنين بالنسبة ليوم القيامة ، كما بين جانبا من فضله على عباده ، ومن حرمته بهم ، فقال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ … فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } .