Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 36-45)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { يَعْشُ } أى يعرض . يقال عشا فلان يعشو ، كدعا يدعو ، وعشى يعشى ، كرضى يرضى ، إذا ضعف بصره ، ومنه قولهم ناقة عشواء ، إذا كانت لا تبصر إلا شيئا قليلا ، والمراد هنا عمى البصيرة وضعف إدراكها للخير . ومنه قولهم ركب فلان العشواء ، إذا خبط أمره على غير هدى أو بصيرة . والمعنى ومن يتعام عن ذكر الرحمن ، ويعرض عن قرآنه ، ويتجاهل هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أى ، نهيئ ونسبب له شيطانا رجيما يستولى عليه ، ويستحوذ على قلبه وعقله . { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أى فذلك الشيطان يكون ملازما ومصاحبا لهذا الإِنسان الذى أعرض عن القرآن ، ملازمة القرين لقرينه ، والشئ لظله . ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } ثم بين - سبحانه - الآثار التى تترتب على مقارنة الشيطان للإِنسان فقال { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } . والضمير فى { وَإِنَّهُمْ } يعود إلى الشيطان باعتبار جنسه ، وفى قوله - تعالى - { لَيَصُدُّونَهُمْ } يعود إلى { وَمَن } فى قوله { وَمَن يَعْشُ … } باعتبار معناها . أى ومن يعرض عن طاعة الله ، نهيئ له شيطانا ، فيكون ملازما له ملازمة تامة ، وإن هؤلاء الشياطين وظيفتهم أنهم يصدون هؤلاء الفاسقين عن ذكر الله - تعالى - ، وعن سبيله الحق وصراطه المستقيم . { وَيَحْسَبُونَ } أى هؤلاء الكافرون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } إلى السبيل الحق . فالضمائر فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } وما بعده يعود إلى الكافرين . ويصح أن يكون الضمير فى قوله { وَيَحْسَبُونَ } يعود إلى الكفار ، وفى قوله { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } يعود إلى الشيطان ، فيكون المعنى ويظن هؤلاء الكافرون أن الشياطين مهتدون إلى الحق ، ولذلك اتبعوهم وأطاعوهم . ثم بين - سبحانه - ما يكون بين هذا الإِنسان الكافر وبين قرينه من الشياطين يوم القيامة ، فقال - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } . أى لقد استمر هذا المعرض عن ذكر الله فى غيه . ومات على ذلك حتى إذا جاءنا يوم القيامة لحساب والجزاء ، { قَالَ } لقرينه الذى صده عن طريق الحق … { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } أى أتمنى أن تكون المسافة التى بينى وبينك من البعد والمفارقة ، كالمسافة التى بين المشرق والمغرب . فالمراد بالمشرقين المشرق والمغرب فعبر - سبحانه - بالمشرقين على سبيل التغليب لأحدهما على الآخر . { فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } أى فبئس القرين أنت - أيها الشيطان - فالمخصوص بالذم محذوف . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيقال لهذا العاشى عن ذكر الله ولقرينه على سبيل التأنيب والتوبيخ فقال { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ . … } . والضمير فى قوله { يَنفَعَكُمُ } يعود إلى التمنى المذكور فى قوله { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ … } و { إِذ } ظرف لما مضى من الزمان ، بدل من { ٱلْيَوْمَ } . أى ولن ينفعكم ندمكم وتمنيكم اليوم شيئا ، بعد أن تبين لكم أنكم كنتم ظالمين فى الدنيا ، ومصرين على الكفر والضلال . وقوله { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } تعليل لما قبله ، أى ولن ينفعكم اليوم تمنيكم وندمكم لأنكم فى هذا اليوم أنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب ، كما كنتم فى الدنيا مشتركون فى سببه ، وهو الكفر والضلال . قال صاحب الكشاف ما ملخصه قوله { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } فى محل الرفع على الفاعلية . يعنى ولن ينفعكم كونكم مشتركين فى العذاب كما ينفع الواقعين فى الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم فى تحمل أعبائه . لأن كل واحد منكم ، به من العذاب ما هو فوق طاقته … ولك أن تجعل الفاعل التمنى فى قوله { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ … } على معنى ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين ، وقوله { أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } تعليل ، أى ولن ينفعكم تمنيكم ، لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم فى العذاب … وتقويه قراءة من قرأ { إنكم } بالكسر . وبعد هذا التوبيخ الشديد للمعرض عن ذكر الله ولشيطانه ، يوجه الله - تعالى - خطابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليزيده تسلية وتثبيتا فيقول { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . والاستفهام للنفى أى أفأنت - أيها الرسول الكريم - تستطيع أن تسمع الصم صوتك ، أو أن تهدى الذين انطمست بصائرهم إلى الطريق الحق . أو أن تخرج من كان فى الضلال الواضح إلى الهدى والرشاد ؟ كلا إنك لن تستطيع ذلك ، لأن الهداية والإِضلال ، من الله - تعالى - وحده . وأنت - أيها الرسول الكريم - عليك البلاغ ونحن علينا الحساب . فالمقصود من الآية الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهيه من أن يضيق صدره بسبب إعراضهم المستمر عن دعوة الحق ، وبيان أن الهداية والإِضلال بيد الله - تعالى - وحده . وسماهم - سبحانه - صما وعميا ، مع أنهم يسمعون ويبصرون ، لأنهم بمنزلة الصم والعمى فى عدم انتفاعهم بالهدى والرشاد الذى جاءهم به - صلى الله عليه وسلم - . وقوله - تعالى - { وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } معطوف على العمى والصم باعتبار تغاير الصفات . أى أنت - أيها الرسول الكريم - لن تستطيع هداية من كان أصم وأعمى ، ومن كان مصرا على الضلال المبين وما دام الأمر كذلك فسر فى طريقك ، دون أن تذهب نفسك عليهم حسرات … وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } زيادة فى تسليته وتثبيته - صلى الله عليه وسلم - . أى أن أمرك - أيها الرسول الكريم - مع هؤلاء الظالمين لا يخلو عن حالين إما أن نتوفينك قبل أن ترى نقمتنا منهم … وفى هذه الحالة فسنتولى نحن عذابهم والانتقام منهم ، حسب إرادتنا ومشيئتنا ، وإما أن نبقى حياتك حتى ترى بعينيك العذاب الذى توعدناهم به ، فإنا عليهم وعلى غيرهم مقتدرون على تنفيذ ما نتوعد به من دون أن يستطيع أحد الإِفلات من قبضتنا وقدرتنا . قال ابن كثير أى نحن قادرون على هذا وعلى هذا . ولم يقبض الله - تعالى - رسوله ، حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكمه فى نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } والفاء فى قوله - تعالى - { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ … } واقعة جوابا لشرط مقدر . أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن أمرك مع هؤلاء المشركين لا يخلو عن حالين فاستمسك - أيها الرسول الكريم - بما أوحينا إليك من هدايات وإرشادات { إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وطريق قويم لا عوج فيه ولا اضطراب . { وَإِنَّهُ } أى هذا القرآن { لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أى لشرف عظيم لك ولشرف عظيم لأهل مكة الذين بعثت فيهم بصفة خاصة ، ولغيرهم ممن آمن بك بصفة عامة كما قال - تعالى - { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } أى عزكم وشرفكم . وقوله { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } تحذير من مخالفة ما اشتمل عليه هذا القرآن من أحكام وآداب وتشريعات . أى وسوف تسألون يوم القيامة عنه ، وعن القيام بحقه ، وعن مقدار تمسككم بأوامره ونواهيه وعن شكركم لله - تعالى - على منحكم لهذه النعمة . ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التثبيت لنبيه - صلى الله عليه وسلم - تثبيتا آخر فقال { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . والمقصود من الآية الكريمة بيان أن الرسل جميعا ، قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، كما قال - سبحانه - { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ } وكما قال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } قال صاحب الكشاف ما ملخصه ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته ، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم ، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان ، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله - تعالى - وحده … وقيل إن النبى - صلى الله عليه وسلم - جمع الله له الأنبياء ، فى ليلة الإِسراء فى بيت المقدس ، فصلى بهم إماما ، وقيل له سلهم فلم يتشكك ولم يسأل . وقيل معناه ، سل أمم من أرسلنا من قبلك ، وهم أهل الكتابين التوارة والإِنجيل فإذا سألهم فكأنما سأل - رسلهم - فالكلام على حذف مضاف . فالآية الكريمة تقرر على كل الوجوب بأبلغ أسلوب ، أن جميع الرسل قد جاءوا بعقيدة واحدة ، وبدين واحد ، هو عبادة الله - تعالى - ونبذ كل معبود سواه . * * * ثم تمضى السورة الكريمة فى تسليتها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى تثبيتها للمؤمنين ، فتذكر جانبا من قصة موسى - عليه السلام مع فرعون ، وكيف أن فرعون خسر من دعوة موسى - عليه السلام - وتباهى على قومه بذلك ، وكيف أنه استخف بهم فأطاعوه ، فكانت عاقبته وعاقبتهم أن أغرقهم الله جميعا . قال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ … سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } .