Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 16-19)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وضمير الجمع فى قوله - تعالى - { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعود إلى هؤلاء الكافرين الذين يأكلون كما تأكل الأنعام ، وذلك باعتبار أن المنافقين فرقة من الكافرين ، إلا أنها تخفى هذا الكفر وتبطنه . كما يحتمل أن يعود إلى كل من أظهر الإِسلام ، باعتبار أن من بينهم قوما قالوا كلمة الإِسلام بأفواههم دون أن تصدقها قلوبهم . وعلى كل حال فإن النفاق قد ظهر بالمدينة ، بعد أن قويت شوكة المسلمين بها . وصاروا قوة يخشاها أعداؤهم ، هذه القوة جعلت بعض الناس يتظاهرون بالإِسلام على كره وهم يضمرون له ولأتباعه العداوة والبغضاء … ويؤيدهم فى ذلك اليهود وغيرهم من الضالين . أى ومن هؤلاء الذين يناصبونك العداوة والبغضاء - أيها الرسول الكريم قوم يستمعون إليك بآذانهم لا بقلوبهم . { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أى من مجلسك الذى كانوا يستمعون إليك فيه ، { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء والتهكم { لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من أصحابك ، الذين فقهوا كلامك وحفظوه . { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى ماذا كان يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نفارق مجلسه . فقوله { آنِفاً } اسم فاعل ، ولم يسمع له فعل ثلاثى ، بل سمع ائتنف يأتنف واستأنف يستأنف بمعنى ابتدأ . قال القرطبى قوله { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى ماذا قال الآن … فآنفا يراد به الساعة التى هى أقرب الأوقات إليك ، من قولك استأنفت الشئ إذا ابتدأت به ومنه قولهم أمر أُنُف ، وروضة أُنُف ، أى لم يرعها أحد . وقال الآلوسى ما ملخصه قوله { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ … } هم المنافقون ، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ ، كما أن جمعه باعتبار المعنى . قال ابن جرير ، كانوا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم . ومقصودهم بقولهم { مَاذَا قَالَ آنِفاً } الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام . و { آنِفاً } اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له ثلاثى ، بل المسموع استأنف وأتنف . ثم بين - سبحانه - حالهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } . أى أولئك المنافقون الذين قالوا هذا القول القبيح ، هم الذين طبع الله - تعالى - على قلوبهم بأن جعلها بسبب استحبابهم الضلالة على الهداية لا ينتفعون بنصح ، ولا يستجيبون لخير ، وهم الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم فصاروا لا يعقلون حقا ، ولا يفقهون حديثا . فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه هؤلاء المنافقون من مكر وخداع ، ومن خبث وسوء طوية . وترد عليهم بهذا الذم الشديد الذى يناسب جرمهم . ثم يعقب - سبحانه - على ذلك ببيان حال المؤمنين الصادقين فيقول { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } . أى هذا هو حال المنافقين ، وهذا هو الحكم الذى يناسبهم ، أما الذين اهتدوا إلى الحق ، واستجابوا له ، وخالطت بشاشته قلوبهم ، فهم الذين زادهم الله - تعالى - هداية على هدايتهم . وزادهم علما وبصيرة وفقها فى الدين ، ومنحهم بفضله وإحسانه خلق التقوى والخشية منه ، والطاعة لأمره ، وكافأهم على ذلك بما يستحقون من ثواب جزيل . ثم تعود السورة الكريمة إلى توبيخ هؤلاء المنافقين على غفلتهم وانطماس بصائرهم ، فتقول { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } ؟ . فالاستفهام للإِنكار والتعجب من حالهم ، وقوله { أَن تَأْتِيَهُمْ } بدل اشتمال من الساعة ، والأشراط جمع شَرَط - بالتحريك مع الفتح - وهو العلامة ، وأصله الإِعلام عن الشئ . يقال أشرط فلان نفسه لكذا ، إذا أعلمها له وأعدها ، ومنه الشرطى - كتركى - والجمع شُرَط - بضم ففتح - سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها ، وتميزهم عن غيرهم . وقوله { فَأَنَّىٰ لَهُمْ } خبر مقدم و { ذِكْرَاهُمْ } مبتدأ مؤخر ، والضمير فى قوله { جَآءَتْهُمْ } يعود إلى الساعة ، والكلام على حذف مضاف قبل قوله { ذِكْرَاهُمْ } أى فأنى لهم نفع ذكراهم ؟ والمعنى ما ينتظر هؤلاء الجاهلون إلا الساعة ، التى سيفاجئهم مجيؤها مفاجأة بدون مقدمات ، والحق أن علاماتها قد ظهرت دون أن يرفعوا لها رأسا ، ودون أن يعتبروا بها أو يتعظوا لاستيلاء الأهواء عليهم . ولكنهم عندما تداهمهم الساعة بأهوالها ، ويقفون للحساب . يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله … ولكن إيمانهم فى ذلك الوقت لن ينفعهم ، لأنه جاء فى غير محله الذى يقبل فيه ، وتذكرهم واتعاظهم - أيضا - لن يفيدهم لأنه جاء بعد فوات الأوان . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وقوله - تعالى - { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وقوله - عز وجل - { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } قال الآلوسى الظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التى كانت واقعة إذ ذاك ، وأخبروا أنها علامات لها ، كبعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج أحمد والبخارى ومسلم والترمذى عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بعثت أنا والساعة كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى " . وأراد - صلى الله عليه وسلم - مزيد القرب بين مبعثه والساعة ، فإن السبابة تقرب من الوسطى . وأخرج أحمد عن بريدة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول " بعثت أنا والساعة جميعا . وإن كادت لتسبقنى " وهذا أبلغ فى إفادة القرب . وعدوا منها انشقاق القمر الذى وقع له - صلى الله عليه وسلم - والدخان الذى وقع لأهل مكة ، أما أشراطها مطلقا فكثيرة ، ومنها ككون الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون فى البنيان . ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يداوم على استغفاره وطاعته لله - تعالى - وأن يأمر اتباعه بالاقتداء به فى ذلك فقال { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } . والفاء فى قوله { فَٱعْلَمْ } للإِفصاح عن جواب شرط معلوم مما مر من آيات . والتقدير إذا تبين لك ما سقناه عن حال السعداء والأشقياء ، فاعلم أنه لا إله إلا الله ، واثبت على هذا العلم ، واعمل بمقتضاه ، واستمر على هذا العمل { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أى واستغفر الله - تعالى - من أن يقع منك ذنب ، واعتصم بحبله لكى يعصمك من كل ما لا يرضيه . واستغفر - أيضا { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } بأن تدعو لهم بالرحمة والمغفرة { وَٱللَّهُ } - تعالى - بعد كل ذلك { يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أى يعلم كل متقلب وكل إقامة لكم سواء أكانت فى بر أم فى بحر أم فى غيرهما . والمقصود أنه - تعالى - يعلم جميع أحوالكم ولا يخفى عليه شئ منها ، والمتقلب المتصرف ، من التقلب وهو التصرف والانتقال من مكان إلى آخر . والمثوى المسكن الذى يأوى إليه الإِنسان ، ويقيم به . قال الإِمام ابن كثير وقوله { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله ، ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك ، ولهذا عطف عليه بقوله { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } . وفى الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول " اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى ، وإسرافى فى أمرى ، وما أنت أعلم به منى . اللهم اغفر لى هزلى وجدى ، وخطئى وعمدى ، وكل ذلك عندى " . وفى الصحيح أنه كان يقول فى آخر الصلاة " اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت . وما أنت أعلم به منى ، أنت إلهى لا إله إلا أنت " . وفى الصحيح أنه قال " يأيها الناس . توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " . ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب المداومة على استغفار الله - تعالى - والتوبة إليه توبة صادقة نصوحا . لأنه إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - قد أمره - سبحانه - بالاستغفار ، فأولى بغيره أن يواظب على ذلك ، لأن الاستغفار بجانب أنه ذكر لله - تعالى - فهو - أيضا شكر له - سبحانه - على نعمه . وقد توسع الإِمام الآلوسى فى الحديث عن معنى قوله - تعالى - { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ … } فارجع إليه إن شئت . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال المنافقين عندما يدعون إلى القتال فى سبيل الله ، وكيف أنهم يستولى عليهم الذعر والهلع عند مواجهة هذا التكليف ، وكيف سيكون مصيرهم إذا ما استمروا على هذا النفاق . فقال - تعالى - { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ … عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } .