Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 25-31)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد بارتدادهم على أدبارهم رجوعهم إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال . أى إن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال ، وهم المنافقون ، الذين يتظاهرون بالإِسلام ويخفون الكفر . وقوله { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدى } ذم لهم على هذا الارتداد ، لأنهم لم يعودوا إلى الكفر عن جهالة ، وإنما عادوا إليه من بعد أن شاهدوا الدلائل الظاهرة ، والبراهين الساطعة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن الإِسلام هو الدين الحق . وقوله { ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر ، وهى خبر إن فى قوله - سبحانه - { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ } . وقوله { سَوَّلَ } من التسويل بمعنى التزيين والتسهيل . يقال سولت لفلان نفسه هذا الفعل ، أى زينته وحسنته له ، وصورته له فى صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح . وقوله { وَأَمْلَىٰ } من الإِملاء وهو الإِبقاء ملاوة من الدهر ، أى زمنا منه أى الشيطان زين لهؤلاء المنافقين سوء أعمالهم ، ومد لهم فى الأمانى الباطلة ، والآمال الفاسدة ، وأسباب الغواية والضلال . وأسند - سبحانه - هذا التسويل والإِملاء إلى الشيطان ، مع أن الخالق لذلك هو الله - تعالى - لأن الشيطان هو السبب فى هذا الضلال والخسران . ثم بين - سبحانه - أسباب هذا الارتداء فقال { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } . أى ذلك الارتداء عن الحق والتردى فى الباطل . بسبب أن هؤلاء المنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله من الهدى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهم اليهود ومن على شاكلتهم ، قالوا لهم { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } أى سنطيعكم فى بعض أموركم وأحوالكم التى على رأسها العداوة لهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به من عند ربه . كما قال - تعالى - حكاية عنهم فى آية أخرى { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } تهديد لهم على هذا الدس والكيد والتآمر على الإِِسلام وأتباعه . أى والله - تعالى - يعلم ما يسرونه من أقوال سيئة ، ومن أفعال قبيحة ، وسيعاقبهم على ذلك عقابا شديدا . وكلمة { إِسْرَارَهُمْ } - بكسر الهمزة - مصدر أسررت إسرارا ، بمعنى كتمت الشئ وأخفيته وقرأ بعض القراء السبعة { أسرارهم } - بفتح الهمزة - جمع سر . يعلم الأشياء التى يسرونها ويخفونها . ثم بين - سبحانه - حالهم عندما تقبض الملائكة أرواحهم فقال { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والاستفهام للاستعظام والتهويل ، و " كيف " منصوب بفعل محذوف هو العامل فى الظرف " إذا " . والمراد بوجوههم كل ما أقبل منهم ، وبأدبارهم كل ما أدبر من أجسامهم . أى هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم ، وقالوا ما قالوا من كفر وضلال ، كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وقبضت أرواحهم ؟ لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال وأقبحه ، لأن ملائكة الموت يضربون عند قبض أرواحهم وجوه هؤلاء المنافقين وأدبارهم ، ضربا أليما موجعا . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } يعود إلى توفى الملائكة لهم ، وقبضهم لأرواح هؤلاء المنافقين . أى ذلك الضرب الأليم لهم من الملائكة عند قبضهم لأرواحهم بسبب أن هؤلاء المنافقين قد اتبعوا ما يغضب الله - تعالى - من الكفر والمعاصى ، وبسبب أنهم كرهوا ما يرضيه من الإِيمان والطاعة . { فَأَحْبَطَ } - سبحانه - { أَعْمَالَهُمْ } بأن أبطلها ولم يقبلها منهم ، لأنها لم تصدر عن قلب سليم . ثم هددهم - سبحانه - بكشف أستارهم ، وفضح أسرارهم فقال { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } . و " أم " منقطعة بمعنى بل والهمزة ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، و " أن " مخففة من الثقنلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بعدها خبرها ، وأن وصلتها سادة مسد مفعولى حسب . والأضغان جمع ضغن ، وهو الحقد الشديد . يقال ضَغِن صدر فلان ضَغَنا - بزنة تعب - ، إذا اشتد حقده وغيظه ، والاسم الضِّغْن ، بمعنى الالتواء والاعوجاج الذى يكون فى كل شئ ، ويقال تضاغن القوم ، إذا انطوت قلوبهم على البغض والحقد . أى بل أحسب هؤلاء المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بمرض الكفر والضلال ، أن الله - تعالى - غير قادر على إظهار أحقادهم الشديدة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ؟ إن حسبانهم هذا هو لون من جهالاتهم ومن غباوتهم وانطماس بصائرهم . لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ ، ولا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته فقال { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } . والمراد بالإِرادة هنا التعريف والعلم الذى يقوم مقام الرؤية بالبصر ، كما فى قولهم سأريك يا فلان ما أصنع بك . أى سأعلمك بذلك . والفاء فى قوله { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } لترتيب المعرفة على الإِرادة ، والمراد بسيماهم علاماتهم . يقال سوم فلان فرسه تسويما ، إذا جعل له علامة يتميز بها . وكررت اللام فى قوله { فَلَعَرَفْتَهُم } للتأكيد . ولحن القول أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة ، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإِبهام ، يقال لَحْنتُ لفلان ألْحَن لَحْنا ، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره . قال الجمل واللحن يقال على معنيين ، أحدهما الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك - ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه فى غزوة الأحزاب " وإن وجدتموهم - أى بنى قريظة - على الغدر فالحنوا لى لحنا أعرفه " . والثانى صرف الكلام من الإِعراب إلى الخطأ - أى من النطق السليم إلى النطق الخطأ - . ويقال من الأول لحَنتْ - بفتح الحاء - ألحن فأنا لاحن ، ويقال من الثانى لَحِن - بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما - فهو لحن . والمعنى ولو نشاء إعلامك وتعريفك - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شئ { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أى بعلاماتهم الخاصة بهم ، والتى يتميزون بها عن غيرهم . { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } - أيضا - { فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أى ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عن الأساليب المعروفة فى الكلام ، حيث يتخاطبون فيما بينهم بمخاطبات لا يقصدون ظاهرها ، وإنما يقصدون أشياء أخرى فيها الإِساءة إليك وإلى أتباعك . قال الإِمام ابن كثير قوله - تعالى - { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } يقول - تعالى - ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا ، ولكن لم يفعل سبحانه - ذلك فى جميع المنافقين ، سترا منه على خلقه . { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أى فيما يبدون من كلامهم الدال على مقاصدهم . كما قال عثمان - رضى الله عنه - ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه . وفى الحديث " ما اسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها " . وعن أبى مسعود عقبة بن عمرو قال " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن منكم منافقين ، فمن سميت فليقم . ثم قال قم يا فلان ، قم يا فلان - حتى سمى ستة وثلاثين رجلا - ثم قال إن فيكم - أو منكم - فاتقوا الله " . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } ببان لعلمه الشامل - سبحانه - وتهديد لمن يجترح السيئات ، أى والله - تالى - يعلم أعمالكم علما تاما كاملا ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب . ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فى خلقه فقال { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } . أى ولنعاملنكم - أيها الناس - معاملة المختبر لكم بالتكاليف الشرعية المتنوعة ، حتى نبين ونظهر لكم المجاهدين منكم من غيرهم ، والصابرين منكم وغير الصابرين { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أى ونظهر أخباركم حتى يتميز الحسن منها من القبيح . فالمراد بقوله { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ … } إظهار هذا العلم للناس ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، وصحيح العقيدة من سقيمها . وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد هددت المنافقين تهديدا شديدا ، ووبختهم على مسالكهم الذميمة ، وفضحتهم على رءوس الأشهاد ، وحذرت المؤمنين من شرورهم . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالدعوة إلى صلاح الأعمال ، وبتهديد الكافرين بالعذاب الشديد ، وبتبشير المؤمنين بالثواب الجزيل ، وبدعوتهم إلى الإِكثار من الإِنفاق فى سبيله … فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ … لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } .