Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 14-18)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والإِعراب اسم جنس لبدو العرب ، واحده أعرابى ، وهم الذين يسكنون البادية . والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم ، لأن منهم ، { مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } قال الآلوسى قال مجاهد نزلت هذه الآيات فى بنى أسد ، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة ، أظهروا الإِسلام ، وقلوبهم دغلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا … ويروى أنهم قدموا المدينة فى سنة مجدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان … يمنون بذلك على النبى - صلى الله عليه وسلم - . وقوله - سبحانه - { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا } من الإِيمان ، وهو التصديق القلبى ، والإِذعان النفسى والعمل بما يقتضيه هذا الإِيمان من طاعة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { أَسْلَمْنَا } من الإِسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهرى بالجوارح ، دون أن يخالط الإِيمان شغاف قلوبهم . أى قالت الأعراب لك - أيها الرسول الكريم - آمنا وصدقنا بقلوبنا لكل ما جئت به ، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه . قل لهم { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أى لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية … { وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أى ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإِسلام واستسلمنا لما تدعونا إليه إستسلاما ظاهريا طمعا فى الغنائم ، أو خوفا من القتل . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما وجه قوله - تعالى - { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } والذى يقتضيه نظم الكلام أن يقال قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا … قلت أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل قل لم تؤمنوا ، وروعى فى هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه ، حيث لم يقل كذبتم ، ووضع ، " لم تؤمنوا " الذى هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه … واستغنى بالجملة التى هى " لم تؤمنوا " عن أن يقال لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإِيمان … وقوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } جملة حالية من ضمير ، " قولوا " و " لما " لفظ يفيد توقع حصول الشئ الذى لم يتم حصوله . أى قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإِيمان فى قلوبكم بعد ، فإنه لو استقر فى قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك ، ولما مننتم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإسلامكم . قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإِيمان أخص من الإِسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، حين سأل عن الإِسلام . ثم عن الإِيمان … فترقى من الأعم إلى الأخص . كما يدل على ذلك حديث الصحيحين " عن سعد بن أبى وقاص ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلا ولم يعط آخر . فقال سعد يا رسول الله ، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا ، فقال " أو مسلما " . فقد فرق - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمن والمسلم . فدل على أن الإِيمان أخص من الإِسلام . كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين فى هذه الآية ، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان فى قلوبهم . فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا بذلك … ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما يكمل إيمانهم فقال { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . ومعنى " لا يلتكم " لا ينقصكم . يقال لات فلان فلانا حقه - كباع - إذا نقصه . أى وإن تطيعوا الله - تعالى - ورسوله ، بأن تخلصوا العبادة ، وتتركوا المن والطمع ، لا ينقصكم - سبحانه - من أجور أعمالكم شيئا ، إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا . ثم بين - سبحانه - صفات عباده المؤمنين الصادقين فقال { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } . أى إنما المؤمنون حق الإِيمان وأكمله ، هم الذين آمنوا بالله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أى لم يدخل قلوبهم شئ من الريبة أو الشك فيما أخبرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - . وأتى - سبحانه - بثم التى للتراخى ، للتنبيه على أن نفى الريب عنهم ليس مقصورا على وقت إيمانهم فقط ، بل هو مستمر بعد ذلك إلى نهاية آجالهم ، فكأنه - سبحانه - يقول إنهم آمنوا عن يقين ، واستمر معهم هذا اليقين إلى النهاية . ثم أتبع ذلك ببيان الثمار الطيبة التى ترتبت على هذا الإِيمان الصادق فقال { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . أى وبذلوا من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - ، ومن أجل دينه أموالهم وأنفسهم . قال الآلوسى وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقى من الأدنى إلى الأعلى . ويجوز بأن يقال قدم الأموال لحرص الكثيرين عليها ، حتى إنهم يهلكون أنفسهم بسببها … { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أى أولئك الذين فعلوا ذلك هم الصادقون فى إيمانهم . ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم بأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أحوالهم فقال { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } . وقوله { أَتُعَلِّمُونَ } من الإِعلام بمعنى الإِخبار ، فلذا تعدى بالتضعيف لِواحِد بنفسه ، وإلى الثانى بحرف الجر . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الأعراب على سبيل التوبيخ أتخبرون الله - تعالى - بما أنتم عليه من دين وتصديق حيث قلتم آمنا ، على سبيل التفاخر والتباهى … وأحال أن الله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } دون أن يخفى عليه شئ من أحوال المخلوقات الكائنة فيهما . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقرر لما قبله ومؤكد له . ثم أشار - تعالى - إلى نوع آخر من جفائهم وقلة إدراكهم فقال { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ … } . والمن تعداد النعم على الغير ، وهو مذموم من الخلق ، محمود من الله - تعالى - . أى هؤلاء الأعراب يعدون إيمانهم بك منة عليك ، ونعمة أسدوها إليك حيث قالوا لك جئناك بالأموال والعيال ، وقاتلك الناس ولم نقاتلك … وقوله { أَنْ أَسْلَمُواْ } فى موضع المفعول لقوله { يَمُنُّونَ } لتضمينه معنى الاعتداد ، أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر . أى يمنون عليك بإِسلامهم . ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يدل على غفلتهم فقال { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ … } . أى قل لهم لا تتفاخروا علىّ بسبب إسلامكم ، لأن ثمرة هذا الإِسلام يعود نفعها عليكم لا علىّ . ثم بين - سبحانه - أن المنة له وحده فقال { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ … } . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - ليس الأمر كما زعمتم من أن إِسلامكم يعتبر منّهًّ علىَّ ، بل الحق أن الله - تعالى - هو الذى يمن عليكم أن أرشدكم إلى الإِيمان ، وهداكم إليه ، وبين لكم طريقه ، فادعيتم أنكم آمنتم مع أنكم لم تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط . قال صاحب الكشاف وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما ، ونفى أن يكون - كما زعموا - إيمانا فلما منُّوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهم ، قال الله - تعالى - لرسوله إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به … ثم قال بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه ، حيث هداكم للإِيمان - على ما زعمتم - وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ، ووفقتم له إن صح زعمكم ، وصدقت دعواكم … وفى إضافة الإِسلام عليهم ، وإيراد الإِيمان غير مضاف ، ما لا يخفى على المتأمل … وجواب الشرط فى قوله { إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف ، يدل عليه ما قبله . أى إن كنتم صادقين فى إيمانكم فاعتقدوا ، أن المنة إنما هى لله - تعالى - عليكم ، حيث أرشدكم إلى الطريق الموصل إلى الإِيمان الحق . وشبيه فى المعنى بهذه الآية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار فى إحدى خطبه " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ، وكنتم عالة فأغناكم الله بى ؟ " وكان - صلى الله عليه وسلم - كلما قال شيئا ، قالوا الله ورسوله أَمَنُّ . والحق أن هداية الله - تعالى - لعبده إلى الإِيمان تعتبر منة منه - سبحانه - لا تدانيها منه ، ونعمة لا تقاربها نعمة ، وعطاء ساميا جليلا منه - تعالى - لا يساميه عطاء فله - عز وجل - الشكر الذى لا تحصيه عبارة على النعمة ، ونسأله - تعالى - أن يديمها علينا حتى نلقاه . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } أى إنه - تعالى - يعلم ما خفى وغاب عن عقول الناس من أحوال السماوات والأرض { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } - أيها الناس - لا يعزب عنه شئ من أقوالكم أو أفعالكم . وبعد فهذا تفسير وسيط لسورة " الحجرات " تلك السورة التى رسمت للناس معالم عالم كريم ، تشع فيه الآداب السامية ، والأخلاق العالية ، والقيم الجليلة ، وتختفى فيه ما يتعارض مع هذه المعانى كالحقد والغيبة والتقاتل والتفاخر بالأحساب والأنساب . نسأل الله - أن يجعل القرآن ربيع نفوسنا ، وأنس قلوبنا . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .