Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 17-17)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللام فى قوله { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر . والمراد بالكفر ستر الحق وإنكاره ، والانغماس فى الباطل والضلال . والمعنى أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم . قال بعض العلماء ما ملخصه " لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهى " وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهى فقد قالوا إن الألوهية قد حلت فيه . ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه . وقد قال فى ذلك البيضاوى " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم . وقيل لم يصرح به أحد منهم . ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " . وذلك بلا ريب ينتهى إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله . وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد فى اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - فى أواخر هذه السورة { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم . والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة . وأنها شىء واحد . وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس . فقد قال الدكتور بوست فى تاريخ الكتاب المقدس " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هى الله الأب ، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمى الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير . غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة فى العهد القديم ، كما هى فى العهد الجديد " . وفى هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه . فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس . هذا ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى - { قل فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل من ذا الذى يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم ؟ لا شك أن أحدا لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه . وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التى هى قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها . وحاشا للمخلوق الفانى أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقى { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِين } قال الإِمام الرازى ما ملخصه " احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط . والتقدير إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا فمن الذى يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره . وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أى فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة . يعنى فمن الذى يقدر على دفع شىء من أفعال الله - تعالى - ومنع شىء من مراده . وقوله { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } يعنى أن عيسى مشاكل لمن فى الأرض فى الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى " . وفى توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذى آمنوا به . قال أبو السعود وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكارى عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفى الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب فى ضمنه بالطريق البرهانى . وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلا عن دفع ما أريد بغيره . وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات فى كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية " . وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها فى عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما . وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين . مرة بالنص عليهما . ومرة بالاندراج فى العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة فى تعلق نفاذ الإِرادة فيهما . وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه . أى والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع . أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماته . فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجرى فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته . وما المسيح وأمه إلا من جملة ما فى الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع . وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان . أى ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاضعة لمشيئة الله وقدرته . وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه فى أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله . أى أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التى يريدها تبعا لمشيئته وإرداته . فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن فى خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن فى خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التى ليست مقصورة على نوع واحد بل هى شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته . وقوله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله . أى والله - تعالى - قدير على كل شىء ومالك لكل شىء ومهيمن على كل شىء لا يغلبه شىء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل - . فهذه الآية الكريمة تحكى أقوال النصارى الباطلة فى شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار . ثم ساق - سبحانه - بعض دعاوى أهل الكتاب الباطلة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال - تعالى - { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ … }