Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 1-1)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { أَوْفُواْ } من الإِيفاء . ومعناه الإِتيان بالشىء وافياً تاما لا نقص فيه ، ولا نقض معه . يقال وفى بالعهد وأوفى به إذا أدى ما التزم به . قال صاحب الانتصاف ورد في الكتاب العزيز { وَفَّىٰ } بالتضعيف فى قوله - تعالى - { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } . وورد " أوفى " كثيراً . ومنه { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } . وأما { وَفَّىٰ } ثلاثياً فلم يرد إلا فى قوله - تعالى - { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } لأنه بنى أفعل التفضيل من " وفى " إذ لا يبنى إلا من ثلاثي " . والعقود جمع عقد - بفتح العين - . وهو العهد الموثق . قال الراغب الجمع بين أطراف الشىء . ويستعمل ذلك فى الأجسام الصلبة كعقد الحبل ، وعقد البناء . ثم يستعار ذلك للمعانى نحو عقد البيع والعهد وغيرهما فيقال عاقدته ، وعقدته ، وتعاقدنا . وهو مصدر استعمل اسماً فجمع نحو . { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } . وقد فرق بعضهم بين العقد والعهد فقال " والعقود جمع عقد وهو بمعنى المعقود وهو أوكد العهود . والفرق بين العقد والعهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ، ولا يكون إلا بين متعاقدين . والعهد قد ينفرد به الواحد . فكل عقد عهد ولا يكون كل عهد عقدا " . والمراد بالعقود هنا ما يشمل العقود التى عقدها الله علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمندوبات ، وما يشمل العقود التى تقع بين الناس بعضهم مع بعض فى معاملاتهم المتنوعة وما يشمل العهود التى يقطعها الإِنسان على نفسه ، والتى لا تتنافى مع شريعة الله - تعالى - . وبعضهم يرى أن المراد بالعقود هنا ما يتعاقد عليه الناس فيما بينهم كعقود البيع وعقود النكاح . وبعضهم يرى أن المراد بها هنا العهود التى كانت تؤخذ فى الجاهلية على النصرة والمؤازرة للمظلوم حتى ينال حقه . والأول أولى لأنه أليق بعموم اللفظ ، إذ هو جمع محلى بأل المفيدة للجنس وأوفى بعموم الفائدة . قال القرطبى والمعنى أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض . وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح فى الباب . قال - صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " وقال " كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " . فبين أن الشرط أو العقد الذى يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أى دين الله . فإن ظهر فيها ما يخالف رد ، كما قال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . والبهيمة اسم لذوات الأربع من دواب البر والبحر . قال الفخر الرازى قالوا كل حى لا عقل له فهو بهيمة من قولهم استبهم الأمر على فلان إذا أشكل عليه . وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق . ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع فى البر والبحر " . والأنعام جمع نعم - بفتحتين - وأكثر ما يطلق على الإِبل ، لأنها أعظم نعمة عند العرب . والمراد بالأنعام هنا ما يشمل الإِبل والبقر والغنم ويلحق بها كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبى وحمار الوحش وغيرهما من آكلات العشب ، كما تدخل الطيور غير الجارحة وإضافة البهيمة إلى الأنعام إضافة بيانية من إضافة الجنس إلى ما هو أخص منه كشجر الأراك ، وثوب الخز . أى أحل الله لكم أيها المؤمنون الانتفاع ببهيمة الأنعام . وهذا الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك مما أحله الله منها . وقال الآلوسى ما ملخصه وقال غير واحد البهيمة اسم لكل ذات أربع من دواب البر والبحر . وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز . أى أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام . وهى الأزواج الثمانية المذكورة فى سورتها . وأفردت البهيمة لإرادة الجنس وجمع الأنعام ليشمل أنواعها . وألحق بها الظباء وبقر الوحش . وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام فى الاجترار وعدم الأنياب . وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما . وقيل المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهى ميتة ، فيكون مفاد الآية صريحاً حل أكلها . وبه قال الشافعى . وقوله { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } استثناء مما أحله - سبحانه - لهم من بهيمة الأنعام . أى أحل الله لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم بعد ذلك فى كتابه أو على لسان رسوله فإنه محرم عليكم . قال القرطبى قوله - تعالى - { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أى يقرأ عليكم فى القرآن والسنة من قوله - تعالى - فى الآية الثالثة من السورة نفسها - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } إلخ وقوله صلى الله عليه وسلم " كل ذى ناب من السباع فأكله حرام " . فإن قيل الذى يتلى علينا الكتاب وليس السنة ؟ قلنا كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهى كتاب الله . والدليل عليه أمران أحدهما حديث العسيف " لأقضين بينكما بكتاب الله " والرجم ليس منصوصاً عليه فى كتاب الله . الثانى حديث عبد الله بن مسعود " ومالى لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى كتاب الله . ويحتمل ألا ما يتلى عليكم الآن . أو ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة . وقوله { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } بيان لما حرم عليهم فى أحوال معينة ، وبسبب أمور اقترنت به . وقوله { حُرُمٌ } جمع حرام . يقال . أحرم الرجل فهو محرم وحرام وهم حرم . وقوله { مُحِلِّي } جمع محل بمعنى مستحل . والصيد مصدر بمعنى الاصطياد . أو اسم للحيوان المصيد . وقوله { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } حال من الضمير فى { لَكُمْ } . وقوله { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، حال من الضمير فى { مُحِلِّي } . والمعنى يأيها الذين آمنوا كونوا أوفياء بعهودكم مع الله ومع أنفسكم ومع غيركم ، فقد أحل الله - تعالى - بهيمة الأنعام لتنتفعوا بها فضلا منه وكرما ، إلا أنه - سبحانه - حرم عليكم أشياء رحمة بكم فاجتنبوها . كما حرم عليكم الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، سواء أكنتم فى الحل أم كنتم فى الحرم ، ويدخل فى حكم المحرم من كان فى الحرم وليس محرما . وذلك لأن المحرم أو من كان فى أرض الحرم يجب عليه أن يكون مشتغلا بما يرضى الله ، وأن يحترم هذه الأماكن المقدسة التى جعلها الله أماكن أمان ، واطمئنان وعبادة لله رب العالمين . وقد دعا الله - تعالى - المؤمنين إلى الوفاء بالعقود وناداهم بوصف الإِيمان ، ليحثهم على امتثال ما كلفهم به ، لأن الشأن فى المؤمن أن يمتثل لما أمره الله به أو لما نهاه عنه . روى ابن أبى حاتم ، أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال اعهد إلى . فقال له إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ } فارعها سمعك فإنك خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد } تذييل قصد به بيان مشيئة الله النافذة ، وإرادته الشاملة ، وحكمه الذى لا يعقب عليه معقب . أى إن الله يحكم بما يريد أن يحكم به من الأحكام التى تتعلق بالحلال وبالحرام وبغيرهما ، بمقتضى مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، فاستجيبوا - أيها المؤمنون - لحكمة لتنالوا السعادة فى الدنيا والآخرة . هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعهود التى شرعها الله - تعالى - وهذا المعنى ترى سورة المائدة زاخرة به فى كثير من آياتها . فأنت ترى فى مطلعها هذه الآية الكريمة التى تحض على الوفاء بالعقود ، ثم ترى الآية الثانية منها تنهى عن الإخلال بشىء من شعائر الله ، ثم تراها بعد ذلك بقليل تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم وبميثاقه الذى واثقهم به { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } ثم تحكى أن من الأسباب التى أدت إلى طرد بنى إسرائيل من رحمة الله ، نقضهم لمواثيقهم . { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } وهكذا نرى السورة الكريمة حافلة بالتوجيهات التى تحض المؤمنين على التزام العهود والموثيق التى شرعها الله وتحذرهم عاقبة إهمالها ، أو الإِخلال بشىء منها . كما أخذا العلماء منها حل بهيمة الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وأصوافها . وحرمة ما حرم الله - تعالى - منها فى مواطن أخرى . كما أخذوا منها حرمة الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ، وعلى من كان فى أرض الحرم ولو لم يكن محرما . قال القرطبى وهذه الآية تلوح فصاحتها . وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذى بصيرة بالكلام فإنه تضمنت خمسة أحكام الأول الأمر بالوفاء بالعقود . الثاني تحليل بهيمة الأنعام . الثالث استثناء ما يلى بعد ذلك . الرابع استثناء حال الإِحرام فيما يصاد . الخامس ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم . وحكى النقاش أن أصحاب الكندى قالوا له أيها الحكيم اعمل لنا شيئاً مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه . فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد . إنى فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة . فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته فى سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتى بهذا . وبعد أن أشار - سبحانه - إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال - تعالى - { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ … }