Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 46-47)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَقَفَّيْنَا } معطوف على قوله قبل ذلك { أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ } وأصل القفو اتباع الأثر يقال قفاه يقفوه أى اتبع أثره ، والتقفية الاتباع ، يقال قفيته بكذا أى اتبعته . وإنما سميت قافية الشعر قافية لأنها تتبع الوزن ، والقفا مؤخر الرقبة . ويقال قفا أثره إذا سار وراءه واتبعه . قال صاحب الكشاف قفيته مثل عقبته ، إذا أتبعته . ثم يقال قفيته وعقبته به ، فتعديه إلى الثانى بزيادة الباء . فإن قلت فأين المفعول الأول فى الآية ؟ قلت هو محذوف . والظرف الذى هو " على آثارهم " كالسّادمسّده ، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه . والضمير فى قوله { عَلَىٰ آثَارِهِم } يعود على النبيين فى قوله { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } وقوله { آثَارِهِم } جمع أثر وهو العلم الذى يظهر للحس . وآثار القوم ما أبقوا من أعمالهم . وقوله { عَلَىٰ آثَارِهِم } تأكيد لمدلول فعل " قفينا " وإيماء إلى سرعة التقفية . وقوله . { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى لما تقدمه ، لأن ما بين يدى الإِنسان كأنه حاضر أمامه . والمعنى وأتبعنا على آثار أولئك النبيين الذين أسلموا وجوههم الله ، وأخلصوا له العبادة والذين كانوا يحكمون بالتوراة - كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم - أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ناهجا نهجهم فى الخضوع والطاعة والإِخلاص لله رب العالمين ومصدقا للتوراه التى تقدمته ، ومنفذا لأحكامها إلا ما جاء نسخه فى الإِنجيل منها . وفى التعبير بقوله { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم } إشارة إلى أن عيسى - عليه السلام - لم يكن بدعة من الرسل ، وإنما هو واحد منهم ، جاء على آثار من سبقوه ، سالكا مسلكهم فى الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلى بمكارم الأخلاق . وفى التعبير بقوله { بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } إيذان بأنه محدث كجميع المحدثات ، وأنه قد ولد من أمه كما يولد سائر البشر من أمهاتهم ، وأنه لا نسب له إلا من جهتها ، فليس له أب ، وليس ابنا لله - تعالى - ، وإنما هو عبد من عباد الله أوجده بقدرته ، وأرسله - سبحانه - لدعوة الناس إلى توحيده وعبادته . وقوله { مصدقا } حال من عيسى - عليه السلام - قال بعض العلماء " ولو سايرنا الواقع عند النصارى فى هذه الأيام ، لكان لذكر كلمة التصديق فى هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول ، بل بالتنفيذ ، لأن الإِنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة ، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة ، وليس ثمة نص قاطع فى الأناجيل التى بين أيدينا يغاير ما جاء فى التوارة من أحكام تتعلق بالأسرة ، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص . ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح - عليه السلام - تدل على العمل بأحكام التوراة ، مثل قوله - عليه السلام - " ما جئت لأنقض الناموس " أى التوراة . وكلمة { بَيْنَ يَدَيْهِ } تعبير قرآنى ، للدلالة على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجىء عيسى - عليه السلام - وعلما عنده ، وهو علم خال من التحريف والتبديل ، أوحى الله به إليه . ولفظ بين يديه فى دلالته على الأمر المهيأ من الاستعارات الرائعة ، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى بن مريم - عليه السلام - كعلم المحسوس يكون موضوعاً بين يديه . وقوله { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على { قفينا } . وقد وصف الله - تعالى - الإِنجيل الذى أعطاه لعيسى بخمس صفات أولها أنه فيه { هدى } أى فيه هداية للناس إلى الحق الذى متى اتبعوه سعدوا فى دنياهم وآخرتهم . وثانيها أنه فيه { نور } أى ضياء يكشف لهم ما التبس عليهم من أمور دينية ودنيوية . وثالثها كونه { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ } أى أن الإِنجيل مؤيد ومقرر لما جاءت به التوراة من أحكام وآداب وشرائع أنزلها الله فيها . ورابعها كونه { هدى } أى هو بذاته هدى فضلا على اشتماله عليه . وخامسها كونه { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أى تذكير لهم بما يرق له القلب ، وتصفو به النفس ، وتنزجر به القلوب عن غشيان المحرمات . وقوله { فِيهِ هُدًى } جملة مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر . وقوله { نور } معطوف على قوله هدى والجملة كلها فى موضع نصب على أنها حال من الإِنجيل . أى أعطينا عيسى الإِنجيل حالة كونه مشتملا على الهدى والنور . وقوله { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } حال أيضاً من الإِنجيل . ولا تكرار بين { مصدقا } الأولى وبين { مصدقًا } الثانية ، لأن الأولى لبيان حال عيسى وأنه جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة وإلى تنفيذ أحكامها ، والثانية لبيان حال الإِنجيل وأنه جاء مقرر لما اشتملت عليه التوراة من أحكام أنزلها الله ، وأن من الواجب على بنى إسرائيل أن يسيروا على هدى هذه الأحكام إلا ما نسخه الإِنجيل منها فعليهم أن يتبعوا أحكام الإِنجيل فيها . قال ابن كثير وقوله { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أى متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا فى القليل . مما بين لبنى إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه - كما قال - تعالى - إخبارا عن المسيح أنه قال لبنى إسرائيل { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } ولهذا كان المشهور من قول العلماء " أن الإِنجيل نسخ بعض أحكام التوراة " . وقوله { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على ما تقدم ومنتظم معه فى سلك الحالية . وقال أولا { فِيهِ هُدًى } وقال ثانيا { هدى } لزيادة المبالغة فى التنويه بشأن الإِنجيل ، فهو مشتمل على ما يهدى الناس إلى الحق والخير ، وهو فى ذاته هدى ، لأنه منزل من عند الله ، ولأنه بشارة بنبى يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد . قال الفخر الرازى " وأما كونه { هدى } مرة أخرى ، فلأن اشتمال الإِنجيل على البشارة بمجىء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوته . ولما كان أشد وجوه الاختلاف والمنازعة بين المسلمين وبين اليهود ، والنصارى فى ذلك ، لا جرم أعاده الله - تعالى - مرة أخرى تنبيها على أن الإِنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكان هدى فى هذه المسألة التى هى أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير . وأما كونه موعظة فلاشتمال الإِنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة . وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها " . وقوله - تعالى - { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } أمر من الله - تعالى - لأتباع سيدنا عيسى - عليه السلام - الذين وجدوا قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيما بينهم بمقتضى أحكام الإِنجيل بدون تحريف أو تبديل . أما الذين وجدوا بعد بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع . قال الآلوسى ما ملخصه ، قوله { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التى من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذا هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، واختار كونه أمراً مبتدأ الجبائى . وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله { وآتيناه } . أى - وآتينا عيسى ابن مريم الإِنجيل فيه هدى ونور - وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه . وحذف القول - لدلالة ما قبله عليه - كثير فى الكلام . ومنه قوله - تعالى - { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم } واختار ذلك على بن عيسى . وقرأ حمزة { وَلْيَحْكُمْ } - بكسر اللام وفتح الميم - بأن مضمرة - بعد لام كى - والمصدر معطوف على { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً } على تقدير كونهما معللين . أى وآتيناه ليحكم . وقوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله - تعالى - . أى ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق . وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم . قال أبو حيان قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } ناسب هنا ذكرالفسق . لأنه خرج عن أمر الله - تعالى - إذ تقدم قوله { وليحكم } وهو أمر كما قال - تعالى - للملائكة { ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أى خرج عن طاعته . وقال صاحب المنار ما ملخصه وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر فى الأولى وبوصف الظلم فى الثانية ، وبوصف الفسق فى الثالثة . ففى الآية الأولى كان الكلام فى التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به . فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه . يكون كافرا به . وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها فى أصل الكتاب الذى هو ركن الإِيمان ، بل فى عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء . فمن لم يحكم بحكم الله فى ذلك يكون ظالما فى حكمه . وأما الآية الثالثة فهى فى بيان هداية الإِنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب فى إقامة الشريعة على الوجه الذى يطابق مراد الشارع وحكمته . فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة . وبعد أن تحدث - سبحانه - عن التوراة والإِنجيل وما فيهما من الهدى والنور ، وأمر باتباع تعاليمهما … عقب ذلك بالحديث عن القرآن الكريم الذى أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ … }