Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 78-81)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { لُعِنَ } من اللعن بمعنى الطرد من رحمة الله فالملعون هو المحروم من رحمته - سبحانه - ولطفه وعنايته . والمعنى لعن الله - تعالى - الذين كفروا من بنى إسرائيل بأن طردهم من رحمته ، على لسان نبيين كريمين هما داود وعيسى - عليهما السلام - . وقد جاء الفعل " لعن " بالبناء للمجهول لأن الفاعل معلوم وهو الله - تعالى - ولأن الأنبياء ومنهم داود وعيسى لا يلعنون أحدا إلا بإذن الله - سبحانه - . وقوله { مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } فى محل نصب على الحال من الذين كفروا أو من فاعل { كَفَرُواْ } وهو واو الجماعة . وقوله { عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } متعلق بلعن . أى لعنهم - سبحانه - فى الزبور والإِنجيل على لسان هذين النبيين الكريمين اللذين كان أولهما - بجانب منصب الرسالة - قائدا مظفرا قادهم إلى النصر بعد الهزيمة . وكان ثانيهما وهو عيسى - عليه السلام - رسولا مسالما جاءهم ليحل لهم بعض الذى حرم عليهم . قال الآلوسى لعنهم الله - تعالى - فى الزبور والإِنجيل على لسان داود وعيسى ابن مريم بأن أنزل فى هذين الكتابين " ملعون من يكفر من بنى إسرائيل بالله أو بأحد من رسله " . وقيل إن أهل أيلة لما اعتدوا فى السبت قال داود اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة . وأصحاب المائدة لما كفروا بعيسى قال اللهم عذب من كفر من المائدة عذابا لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت " . وقوله { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } بيان لسبب لعنهم وطردهم من رحمة الله . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى اللعن المذكور . أى ذلك اللعن للكافرين من بنى إسرائيل سببه عصيانهم لله ولرسله ، وعدوانهم على الذين يأمرونهم بالقسط من الناس . أى أن لعنهم لم يكن اعتباطاً أو جزافاً ، وإنما كان بسبب أقوالهم القبيحة وأفعالهم المنكرة ، وسلوكهم السىء . وقوله { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا } جملة من مبتدأ وخبر . وقوله { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } معطوف على صلة ما وهو { عصوا } فيكون داخلا فى حيز السبب الذى أدى إلى لعنهم والجملة المكونة من اسم الإِشارة { ذلك } وما بعدها مستأنفة واقعة موقع الجواب لسؤال تقديره لماذا لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل ؟ وقد أفاد اسم الإِشارة مع باء السببية ومع وقوع الجملة فى جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك ما يشبه القصر . وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . أى لم يكن ذلك اللعن الشنيع إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لشىء آخر ، . وعبر - سبحانه - عن عصيانهم بالماضى فقال { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا } للإِشارة إلى استقرار العصيان فى طبائعهم ، وثباته فى نفوسهم وجوارحهم . وعبر عن عدوانهم بالمضارع ، للإِيذان بأنه مستمر قائم ، فهم لم يتركوا نبياً إلا وآذوه ، ولم يتركوا مصلحا إلا واعتدوا عليه فاعتداؤهم على المصلحين مستمر فى كل زمان ومكان . ثم فسر - سبحانه - عصيانهم وعدوانهم بقوله { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } . وقوله { يَتَنَاهَوْنَ } من التناهى . قال الفخر الرازى وللتناهى ههنا معنيان أحدهما وهو الذى عليه الجمهور - أنه تفاعل من النهى . أى كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً . روى ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " من رضى عمل قوم فهو منهم . ومن كثر سواد قوم فهو منهم " . والمعنى الثانى فى التناهى أنه بمعنى الانتهاء عن الأمر ، تناهى عنه إذا كف عنه " . والمنكر هو كل ما تنكره الشرائع والعقول من الأقوال والأفعال . أى أن مظاهر عصيان الكافرين من بنى إسرائيل وتعديهم مما أدى إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله أنهم كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن اقتراف المنكرات . واجتراح السيئات ، بل كانوا يرون المنكرات ترتكب فيسكتون عليها بدون استنكار مع قدرتهم على منعها قبل وقوعها . وهذا شر ما تصاب به الأمم حاضرها ومستقبلها أن تفشو فيها المنكرات والسيئات والرذائل فلا تجد من يستطيع تغييرها وإزالتها . وقوله { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ذم لهم على كثرة ولو غهم فى المعاصى والمنكرات وتعجب من سوء فعلهم . واللام فى قوله { لَبِئْسَ } لام القسم فكأنه - سبحانه - قال أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصى والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . قال صاحب الكشاف قوله { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } للتعجيب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم . فياحسرة على المسلمين فى إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير ، وقلة عبئهم به ، كأنه ليس من ملة الإِسلام فى شىء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات فى هذا الباب . فإن قلت ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهى بعد الفعل ؟ قلت معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله كما ترى أمارات الخوض فى الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر " . هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما قوام الأمم وسياج الدين ولا صلاح لأمة من الأمم إلا بالقيام بحقهما . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث فى هذا المعنى . ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإِيمان " . وروى الإمام أحمد فى معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما وقعت بنو إسرائيل فى المعاصى نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم فى مجالسهم أو فى أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " . قال ابن مسعود وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال " لا والذى نفسى بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً - أى تحملوهم على التزام الحق وتعطوفهم عليه " . وروى الترمذى عن حذيفة بن اليمان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " . وروى الإمام أحمد عن عدى بن عميرة - رضى الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه . فإذا فعلوا ذلك لعن الله العامة والخاصة " . وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال يا رسول الله ، متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال " إذا ظهر فيكم ما ظهر فى الأمم قبلكم قلنا يا رسول الله ، وما الذى ظهر فى الأمم قبلنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم الملك فى صغاركم ، والفاحشة فى كباركم ، والعلم فى رذالتكم " أى فى فساقكم . هذا جانب من الأحاديث التى وردت فى وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . فعلى الأمة الإِسلامية أن تقوم بحقها حتى تكون مستحقة لمدح الله - تعالى - لها بقوله { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } ثم حكى - سبحانه - ما كان يقوم به اليهود فى العهد النبوى من تحالف مع المشركين ضد المسلمين فقال { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى ترى - أيها الرسول الكريم - كثيرا من بنى إسرائيل المعاصرين لك يوالون الكافرين ويحالفونهم عليك بسبب حسدهم لك على ما آتاك الله من فضله وبسبب كراهتهم للإِسلام والمسلمين . والذى يقرأ تاريخ الدعوة الإِسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل فى طريقها ، ويناصرون كل محارب لها ، ففى غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التى كانت بينهم وبين المسلمين . وفى كل زمان ومكان نرى أن اليهود يحاربون الإِسلام والمسلمين ، ويؤيدون كل من يريد لهما الشرور والأضرار . وقوله { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } ذم لهم على موالاتهم للمشركين وبيان لما حق بهم من سوء المصير بسبب مناصرتهم لأعداء الله ، ومحاربتهم لأوليائه . أى لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة استحقوا بسبها سخط الله عليهم ، ولعنه إياهم كما استحقوا أيضاً بسببها الخلود الدائم فى العذاب المهين . قال الجمل و { ما } فى قوله { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } هى الفاعل ، وقوله { وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } هذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهى من جملة المخصوص بالذم فالتقدير سخط الله عليهم وخلدهم فى العذاب . ثم بين - سبحانه - الدوافع التى حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } . فالضمير فى قوله { كانوا } يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين . والمراد - هنا - بالنبى موسى - عليه السلام - وبما أنزل إليه التوراة ، لأن الحديث مع الكافرين من بنى إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى . وقيل المراد به النبى صلى الله عليه وسلم ، والمراد بما أُنزل إليه القرآن . أى ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا ، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوارة التى أنزلها الله عليه إيمانا سليما ، لو كانوا مؤمنين هذا الإِيمان الصادق ، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء ، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة فى التوراة وفى كل شريعة أنزلها الله على نبى من أنبيائه . وقوله { وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } استدارك لبيان حالهم ، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعدواتهم للمسلمين . أى ولكن كثيراً من هؤلاء اليهود فاسقون ، أى خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة ، فدفعهم هذا الفسق ، وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين . وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة ، إنصافا للقلة التى آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة … وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرين من بنى إسرائيل من صفات ذميمة ، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله ، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السىء ، وخلقهم القبيح . وبعد هذا الحديث الطويل الذى طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة ، والذى تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التى أخذها الله عليهم وموقفهم منها ، وعن دعاواهم الباطلة وكيف رد القرآن عليها ، وعن أخلاقهم السيئة ، وعن مسالكهم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين ، وعن المصير السىء الذى ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم ، وعن المنهاج القويم الذى استعمله القرآن معهم فى دعوتهم إلى الدين الحق ، بعد هذا الحديث الطويل معهم فى تلك الموضوعات وفى غيرها نرى السورة الكريمة فى نهاية المطاف تحدثنا عن أشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ … }