Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 36-45)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

و { كَمْ } فى قوله - تعالى - { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ … } خبرية بمعنى كثير ، وهى منصوبة بما بعدها ، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش فى زمن واحد ، ومقداره مائة سنة - على الراجح - . وقوله { مِّن قَرْنٍ } تمييز لكم ، وجملة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } صفة ، والبطش السطوة والأخذ بشدة . أى واعلم - أيها الرسول الكريم - أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التى كذبت رسلها ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا ، وما دام الأمر كما ذكرنا لك ، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك ، فنحن فى قدرتنا أن ندمرهم تدميرا . والضمير فى قوله - تعالى - { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية . والتنقيب السير فى الأرض ، والطواف فيها . والبحث بين أرجائها ، يقال نقب فلان فى الأرض ، إذا ذهب فيها وأصل النَّقْب الخرق والدخول فى الشئ ، ومنه قولهم نقب فلان الجدار ، إذا أحدث فيه خرقا . والمراد به هنا السير فى الأرض ، والتفتيش فيها … قال الآلوسى { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أى ساروا فى الأرض وطوفوا فيها حذر الموت … قال الشاعر @ نقبوا فى البلاد حذر الموت وجالوا فى الأرض كل مجال @@ وشاع التنقيب فى العرف بمعنى التنقير عن الشئ والبحث عن أحواله … والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه ، لمجرد التعقيب ، وعلى تفسيره بالتصرف للسببيه ، لأن تصرفهم فى البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم ، وهى على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها ، كأنه قيل اشتد بطشهم فنقبوا فى البلاد … والاستفهام فى قوله - سبحانه - { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } للإِنكار والنفى ، والمحيص المعدل والمهرَب ، يقال حاص فلان عن الشئ يحيص حَيْصاً ، ومَحِيصا ، إذا عدل وحاد عنه ، وحاول الهروب منه . أى أن هؤلاء المكذبين السابقين ، كانوا أشد من مشركى قريش قوة وأكثر جميعا ، وكانوا أكثر ضربا فى الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار ، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه ، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا . فعليكم - أيها المشركون - أن تعتبروا بهم ، حتى لا يصيبكم ما أصابهم . فالمقصود بالآية الكريمة ، تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد . { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإِهلاك للأمم المكذبة السابقة { لَذِكْرَىٰ } أى لتذكرة وعبرة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى لمن كان له قلب يعى ما يسمع ، ويعقل ما يوجه إليه ، ويعمل بمقتضى هذا التوجيه الحكيم . { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أى فيما سقناه عبرة وعظة لمن كان له قلب يعى الحقائق ، ولمن أصغى إلى ما يلقى إليه من إرشادات ، وهو حاضر الذهن صادق العزم لتنفيذ ما جاءه من الحق . . قال صاحب الكشاف { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى قلب واع ، لأن من لا يعى قلبه فكأنه لا قلب له ، وإلقاء السمع الإِصغاء . { وَهُوَ شَهِيدٌ } أى حاضر بفطنته ، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب … أو هو مؤمن شاهد على صحته ، وأنه وحى الله … ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته ووحدانيته فقال { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } . واللغوب التعب والنصب والإِعياء ، مصدر لغب - كدخل - يقال لغب فلان لغوبا ، إذا اشتد تعبه وضعفه . أى والله لقد خلقنا بقدرتنا السماوات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلى الله ، فى ستة أوقات وما مسنا بسبب هذا الخلق العظيم نصب أو تعب أو إعياء . فالمراد بالأيام مطلق الأوقات التى لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - وقيل هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل من أيام الآخرة … وقال سعيد بن جبير الله - تعالى - قادر على أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما فى لمحة ولحظة ، ولكنه - سبحانه - خلقهن فى ستة أيام ليعلم عباده التثبت فى الأمور والتأنى فيها . والمقصود بالآية الكريمة بيان كمال قدرة الله - تعالى - . والرد على من أنكر البعث والنشور . وعلى اليهود الذين زعموا أن الله - تعالى - خلق العالم فى ستة أيام ثم استراح فى اليوم السابع وهو يوم السبت . والفاء فى قوله { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } فصيحة . أى إذا كان الحال كما بينا لك يا محمد ، فاصبر على ما يقوله هؤلاء الضالون المكذبون من أقوال لا يؤيدها عقل أو نقل . وقوله { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } إرشاد له - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يعينه على الصبر . أى اصبر - أيها الرسول الكريم - على أقوال هؤلاء الكافرين ، ونزه ربك - تعالى - عن كل ما لا يليق به ، وتقرب إليه بالعبادات والطاعات { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } وهما وقتا الفجر والعصر . وخصهما - سبحانه - بالذكر لفضلهما وشرفهما . { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } - أيضا - ونزهه عن كل ما لا يليق به ، { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } أى وفى أدبار وأعقاب الصلوات فأكثر من تسبيحه - عز وجل - وتقديسه . ومن الأحاديث التى وردت فى فضل التسبيح بعد الصلوات المكتوبة ، ما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة - أنه قال " " جاء فقراء المهاجرين فقالوا يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . فقال " وما ذاك " ؟ قالوا يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق . فقال - صلى الله عليه وسلم - " أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " . قال فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله . فقال - صلى الله عليه وسلم - " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " " . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يلقى سمعه لما يخبره به - تعالى - من أهوال يوم القيامة فقال { وَٱسْتَمِعْ … } والمستمع إليه محذوف للتهويل والتعظيم … أى واستمع - أيها الرسول الكريم - أو - أيها العاقل - لما سأخبرك به من أهوال يوم القيامة . ثم بين - سبحانه - ذلك فقال { يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } . أى استمع استماع تنبه وتيقظ يوم يناد المناد وهو إسرافيل - عليه السلام - من مكان قريب بحيث يسمع نداءه الناس جميعا … قال ابن كثير قال قتادة قال كعب الأحبار يأمر الله ملكا أن ينادى على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وفى ورود الأمر بالاستماع مطلقا ، ثم توضيحه بما بعده ، تهويل وتعظيم للمخبر به ، لما فى الإِبهام ، ثم التفسير ، من التهويل والتفخيم لشأن المحدث عنه . وقوله { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ } بدل من قوله { يَوْمَ يُنَادِ } . أى يوم يسمعون صيحة البعث من القبور . والحشر للجزاء ، سماعا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، والمراد بهذه الصيحة النفخة الثانية { ذَلِكَ } اليوم هو { يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من الأجداث كأنهم جراد منتشر . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } ثم بين - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته فقال { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } . أى إنا بقدرتنا وإرادتنا نحيى ونميت من نشاء إحياءه أو إماتته ، وإلينا وحدنا مرجع العباد ومصيرهم ، لا يشاركنا فى ذلك مشارك . اذكر - أيضا - أيها العاقل { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً … } أى يوم تتشقق الأرض عن من فى باطنها من مخلوقات ، فيخرجون إلينا سراعا . كما قال - تعالى - { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } وقوله { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أى ذلك التشقق للأرض وما يترتب عليه من بعث وجمع وحشر ، يسير وهين علينا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شئ . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها من التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن التحديد الدقيق لوظيفته ، فقال - تعالى - { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } . أى نحن - أيها الرسول الكريم - أعلم بما يقوله هؤلاء المشركون فى شأنك وفى شأن دعوتك ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقاب ، فاصبر على أقوالهم ، وبلغ رسالة ربك دون أن تخشى أحدا سواه . وأنت لست بمسلط عليهم لتجبرهم على اتباعك ، وتقهرهم على الدخول فى الإِسلام ، وإنما وظيفتك التذكير بهذا القرآن لمن يخشى عذابى ، ويخاف وعيدى . كما قال - سبحانه - { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } وكما قال - تعالى - { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " ق " التى حفظها بعض الصحابة من فم النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال تكراره لها فى خطب الجمعة . نسأل الله - تعالى - أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .