Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 1-13)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت السورة الكريمة بهذا الاسم الجليل لله - عز وجل - وهو لفظ مشتق من الرحمة ، وصيغته الدالة على المبالغة ، تنبه إلى عظم هذه الرحمة وسعتها . وهذا اللفظ مبتدأ ، وما بعده أخبار له . ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته ومنته على عباده بأجل النعم وأعظمها شأنا ، فقال { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } والقرآن هو أعظم وحى أنزله - سبحانه - على أنبيائه ورسله . أى علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - القرآن الذى هو أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا ، إذ باتباع توجيهاته وإرشاداته ، يظفر الإِنسان بالسعادة الدنيوية والأخروية . ولفظ { ٱلْقُرْآنَ } هو المفعول الثانى لعلم ، والمفعول الأول محذوف . وهذه الآية الكريمة تتضمن الرد عل المشركين الذين زعموا أن هذا القرآن قد تعلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البشر ، كما حكى - سبحانه - عنهم فى قوله { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ … } وفى قوله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ … } كما تتضمن الرد عليهم لزعمهم أنهم لا يعرفون الرحمن ، كما فى قوله - تعالى - { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ … } وقوله - تعالى - { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } بيان لنعمتين أخريين من نعمه - سبحانه - . والمراد بالإِنسان جنسه ، والمراد بالبيان الفهم والنطق والإِفصاح عما يريد الإِفصاح عنه بالكلام الذى أداته اللسان . أى خلق - سبحانه - بقدرته الإِنسان على أجمل صورة ، وأحسن تقويم ، ومكنه من الإِفصاح عما فى نفسه عن طريق المنطق السليم ، والقول الواضح ، كما مكنه من فهم كلام غيره له ، فتميز بذلك عن الأجناس الأخرى ، وصار أهلا لحمل الأمانة التى عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، وأصبح مستعدات لتلقى العلوم والخلافة فى الأرض … ورحم الله - تعالى - صاحب الكشاف ، فقد صور هذه المعانى بأسلوبه الرصين فقال عدد الله - عز وجل - آلاءه فقدم ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه ، وأصناف نعمائه ، وهى نعمة الدين ، وقدم من نعمة الدين ما هو فى أعلى مراتبها ، وأقصى مراقبها ، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحى الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه فى أبواب الدين أثرا ، وهو سنام الكتب السماوية ، ومصداقها ، والعيار عليها . وأخر ذكر خلق الإِنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ، ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علما بوحيه ، وكتبه ، وما خلق الإِنسان من أجله … ثم ذكر ما تميز به الإِنسان عن سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير … ولفظ { ٱلرَّحْمَـٰنُ } مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف ، لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة . . فما تنكر من إحسانه … وقوله - تعالى - { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } بيان لنعمة رابعة من نعمه - تعالى - التى لا تحصى . والحسبان مصدر زيدت فيه الألف والنون ، والمراد بحساب دقيق ، وتقدير حكيم ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف … أى الشمس والقمر يجريان فى هذا الكون ، بحساب دقيق فى بروجهما ومنازلهما ، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب ، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام ، ويعرفون أشهر الحج والصوم ، وغير ذلك من شئون الحياة … وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم قال - تعالى - { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } والمراد بالنجم هنا - عند بعضهم - النبات الذى لا ساق له ، وسمى بذلك . لأنه ينجم - أى يظهر من الأرض - بدون ساق . ويرى آخرون أن المراد به نجوم السماء ، فهو اسم جنس لكل ما يظهر فى السماء من نجوم . ويؤيد هذا الرأى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } والشجر هو النبات الذى له ساق وارتفاع عن وجه الأرض . والمراد بسجودهما انقيادهما وخضوعهما لله - تعالى - كانقياد الساجد لخالقه … قال ابن كثير قال ابن جرير اختلف المفسرون فى معنى قوله { وَٱلنَّجْمُ } بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق ، فعن ابن عباس قال النجم ما انبسط على وجه الأرض من النبات . وكذا قال هذا القول سعيد بن جبير ، والسدى ، وسفيان الثورى ، وقد اختاره ابن جرير … وقال مجاهد النجم - المراد به هنا - الذى يكون فى السماء ، وكذا قال الحسن وقتادة ، وهذا القول هو الأظهر … وقوله - تعالى - { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ … } أى والسماء أوجدها بقدرته مرفوعة بدون أعمدة ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم . فالمقصود بقوله { رَفَعَهَا } لفت الأنظار إلى مظاهر قدرته - تعالى - ، وإلى وجوب شكره وإخلاص العبادة له ، والتزام طاعته … والميزان يطلق على الآلة التى يزن الناس بها ما يريدون وزنه من الأشياء المختلفة . والمراد به هنا وجوب التزام العدل فى الأحكام ، وشاع إطلاق الميزان على العدل فى الأحكام ، لأن كليهما تضبط به الأحكام ، وتنال الحقوق . أى والسماء خلقها مرفوعة ابتداء ، وشرع وأثبت العدل وأمر باتباعه فى الأقوال والأحكام ، ليستقيم أمر الناس . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أى شرع العدل وأمر به ، لينتظم أمر العالم ويستقيم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " بالعدل قامت السموات والأرض " أى بقيتا على أتقن نظام … وتفسير الميزان بالعدل ، هو المروى عن مجاهد ، والطبرى ، والأكثرين ، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية . وعن ابن عباس والحسن وقتادة ، أن المراد بالميزان ما تعرف به مقادير الأشياء ، وهو الآلة المسماة بهذا الاسم … أى أوجده فى الأرض ليضبط الناس معاملاتهم فى أخذهم وعطائهم … وجملة { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } بمنزلة التعليل لما قبلها . أى شرع العدل بين الناس ، وأوجب عليهم التمسك به فى كل شئونهم ، لئلا يتجاوزوه إلى غيره من الجور والظلم . والطغيان هو تجاوز الحدود المشروعة فى كل شىء . ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وهو التزام العدل تأكيدا صريحا فقال { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } . وقوله { وَأَقِيمُواْ } من الإِقامة ، والمراد به الإِتيان بالشىء على أكمل صورة ، ومنه قوله - تعالى - { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } أى أدوها كاملة الأركان والسنن والخشوع . والقسط العدل ، يقال أقسط فلان فى حكمه ، إذا عدل ، والباء للمصاحبة . وقوله { وَلاَ تُخْسِرُواْ } من الإِخسار بمعنى النقص والبخس والجور . والمعنى شرع الله العدل ، ونهاكم عن تجاوزه ، وأمركم أن تقيموا حياتكم عليه فى أوزانكم التى تتعاملون بها فيما بينكم ، وفى كل أحوالكم ، فاحذروا أن تخالفوا أمره … وكرر - سبحانه - لفظ " الميزان " للتنبيه على شدة عناية الله - تعالى - بإقامة العدل بين الناس فى معاملاتهم ، وفى سائر شئونهم ، إذ بدونه لا يستقيم لهم حال ، ولا يصلح لهم بال ، ولا يستقر لهم قرار … ثم انتقلت السورة الكريمة ، إلى بيان جانب من مظاهر نعمه الأرضية فقال - تعالى - { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } . والمراد بالأنام الخلائق المختلفون فى ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ، والذين يعيشون فى شتى أقطارها وفجاجها … وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه . أى والأرض " وضعها " أى أوجدها موضوعة على هذا النظام البديع ، من أجل منفعة الناس جميعا ، لأن إيجادها على تلك الصورة الممهدة المفروشة … جعلهم ينتفعون بما فيها من كنوز وخيرات ، ويتقلبون عليها من مكان إلى آخر … وصدق الله إذ يقول { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً … } وقوله - سبحانه - { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } ، بيان لبعض ما اشتملت عليه هذه الأرض من خيرات . والفاكهة اسم لما يأكله الإِنسان من ثمار على سبيل التفكه والتلذذ ، لا على سبيل القوت الدائم ، مأخوذة من قولهم فكه فلان - كفرح - إذا تلذذت نفسه بالشىء … والأكمام جمع كِمّ - بكسر الكاف - ، وهو الطلع قبل أن تخرج منه الثمار . وقوله { ذُو ٱلْعَصْفِ } أى ذو القشر الذى يكون على الحبن وسمى بذلك لأن الرياح تعصف به . أى تطيره لخفته ، أو المراد به الورق بعد أن ييبس ومنه قوله - تعالى - { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } والريحان هو النبات ذو الرائحة الطيبة ، وقيل هو الرزق . أى فى هذه الأرض التى تعيشون عليها أوجد الله - تعالى - الفاكهة التى تتلذذون بأكلها ، وأوجد لكم النخيل ذات الأوعية التى يكون فيها الثمر … وأوجد لكم الحب ، الذى تحيط به قشوره ، كما ترون ذلك بأعينكم ، فى سنابل القمح والشعير وغيرهما . وأوجد لكم النبات الذى يمتاز بالرائحة الطيبة التى تبهج النفوس وتشرح الصدور ، فأنت ترى أنه - تعالى - قد ذكر فى هذه الآيات ألوانا من النعم ، فقد أوجد فى الأرض الفاكهة للتلذذ ، وأوجد الحب للغذاء ، وأوجد النباتات ذات الرائحة الطيبة . قال القرطبى ما ملخصه وقراءة العامة { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } بالرفع فيها كلها ، عطفا على " فاكهة " أى فيها فاكهة وفيها الحب ذو العصف ، وفيها الريحان … وقرأ ابن عامر بالنصب فيها كلها عطفا على الأرض ، أو بإضمار فعل ، أى وخلق الحبَّ ذَا العصف والريحانَ . أى وخلق الريحان . وقرأ حمزة والكسائى بجر { ٱلرَّيْحَانُ } عطفا على العطف . أى فيها الحب ذو العصف والريحانِ ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان بمعنى الرزق ، فيكون كأنه قال والحب ذو الرزق ، لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس … ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . والفاء للتفريع على النعم المتعددة التى سبق ذكرها ، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم ، والآلاء جمع إِلْى - بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام - وهى النعمة ، والخطاب للمكلفين من الجن والإِنس ، وقيل لأفراد الإِنس مؤمنهم وكافرهم ، أى فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما ، أى تجحدان فضله ومننه - يا معشر الجن والإِنس - مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لى ، والخضوع لعزتى والإِخلاص فى عبادتى . قال الجمل ما ملخصه كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وهو ينكر هذا الإِحسان ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا … ؟ ومثل هذا الكلام شائع فى كلام العرب ، وذلك أن الله - تعالى - عدد على عباده نعمه ، ثم خاطبهم بقوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . وقد كرر - سبحانه - هذه الآية ثمانى مرات ، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه ، ومبدأ هذا الخلق ونهايته ، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم … ثم كررها - أيضا - ثمانى مرات فى وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وكررها كذلك ثمانى مرات فى الجنتين التين هما دون الجنتين السابقتين ، فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله - تعالى - ، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه … ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة خلق الإِنسان ، وعن مظاهر قدرته فى هذا الكون ، فقال - تعالى - { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ … } .