Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 81-96)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } للإِنكار والتوبيخ . وهو داخل على مقدر . والمراد بالحديث القرآن الكريم ، وما تضمنه من هدايات وإرشادات وتشريعات … وقوله { مُّدْهِنُونَ } من الإِدهان وأصله جعل الجلد ونحوه مدهونا بشىء من الدهن ليلين ، ثم صار حقيقة عرفية فى الملاينة والمسايرة والمداراة ومنه قوله - تعالى - { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } والمراد به هنا تظاهر المشركين بمهادنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من قرآن كريم ، وإبداؤهم من اللين خلاف ما يبطنون من المكر والبغضاء . ويصح أن يكون الإِدهان هنا بمعنى التكذيب والنفاق ، إذ أن هذه المعانى - أيضا - تتولد عن المداهنة والمسايرة . أى أتعرضون - أيها المشركون - عن الحق الذى جاءكم به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فتظهرون أمامه بمظهر المداهن والمهادن ، الذى يلين أمام خصمه ، ولا يقابله بالشدة والحزم مع أنه فى الوقت نفسه يضمر له أشد أنواع السوء والكراهية ؟ … إذا كان هذا شأنكم ، فاعلموا أن تصرفكم هذا لا يخفى علينا ؟ ! … وقوله - سبحانه - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون معطوف على ما قبله من باب عطف الجملة على الجملة . والكلام على حذف مضاف . والمعنى أتعرضون عن هذا القرآن على سبل المداهنة والملاينة ، وتجعلون شكر نعمة رزقنا لكم به . وبالمطر الذى لا حياة لكم بدونه ، أنكم تكذبون بكونهما من عند الله - تعالى - فتقولون فى شأن القرآن ، أساطير الأولين ، وتقولون إذا ما أنزلنا المطر عليكم مطرنا بسبب نوء كذا . أى بسبب سقوط النجم فى جهة المغرب من الفجر . قال الآلوسى قوله { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أى وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ، تقولون أمطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا وكذا وأكثر الروايات أن قوله - تعالى - { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } نزل فى القائلين مطرنا بنوء كذا … أخرج مسلم - فى صحيحه - عن ابن عباس قال " مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم - أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر . قالوا هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } " . ثم قال الإِمام الآلوسى والآية على القول بنزولها فى قائلى ذلك ظاهرة فى كفرهم المقابل للإِيمان ، فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر ، وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله - تعالى - ، وأن النوء ميقات وعلامة فإنه ليس بكفر … وقد ذكر المفسرون هنا جملة من الأحاديث فى هذا المعنى فارجع إليها إن شئت . … ثم انتقلت الآيات إلى توبيخهم على أمر آخر ، وهو غفلتهم عن قدرة الله - تعالى - ووحدانيته وهم يشاهدون آثار قدرته أمام أعينهم فقال - تعالى - { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . ولو فى الموضعين للتحضيض على التذكر والاعتبار ، ولإِبراز عجزهم فى أوضح صورة ، إذ إظهار عجزهم هو المقصود هنا بالحض … وقوله { إِذَا بَلَغَتِ } ظرف متعلق بقوله { تَرْجِعُونَهَآ } أى تردونها ، وقد قدم عليه لتهويله ، والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه ، وهو إرجاع الروح إلى صاحبها . والضمير فى { بَلَغَتِ } يعود إلى الروح ، وهى وإن كانت لم تذكر إلا أنها مفهومه من الكلام . والحلقوم مجرى الطعام وأل فيه للعهد الجنسى . وجملة { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } حال من ضمير { بَلَغَتِ } ، ومفعول { تَنظُرُونَ } محذوف والتقدير تنظرون وتبصرون صاحب الروح وهو فى تلك الحالة العصيبة . وجملة { تَرْجِعُونَهَآ … } جواب الشرطين فى قوله { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } وفى قوله { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . وجملة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } مستأنفة لتأكيد توبيخهم على جهالاتهم وعدم اعتبارهم حتى فى أوضح المواقف التى تدل على قدرة خالقهم - عز وجل - . والمعنى إذ كنتم - أيها الجاحدون المكذبون - لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب على لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا … حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم ، وقد بلغت روحه حلقومه ، وأوشكت على أن تفارق جسده … { وَأَنتُمْ } أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيزعليكم { حِينَئِذٍ } أى حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة التى تنذر بقرب نهايته ، أنتم { تَنظُرُونَ } إلى ما يقاسيه من غمرات الموت ، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب ، وتحرصون كل الحرص على انجائه مما حل به ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح . { وَنَحْنُ } فى هذه الحالة وغيرها ، { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أى ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا ، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب ، ولا تقدرون على رفع شىء من قضائنا فيه وفى غيره . وقوله { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } استدراك للكلام السابق . أى ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم ، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة ، وحكمتنا البالغة … { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أى فهلا إن كنتم غير عاجزين عن رد قضائنا فى هذا المحتضر الحبيب إليكم ، وغير مربوبين لنا ، وخاضعين لسلطاننا … يقال دان السلطان الرعية ، إذا ساسهم وأخضعهم لنفوذه . هلا إن كنتم غير خاضعين لنا { تَرْجِعُونَهَآ } أى ترجعون الروح إلى صاحبها { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى اعتقادكم بأن آلهتكم تستطيع الدفاع عنكم وفى اعتقادكم أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت ، وفى توهمكم أن هناك قوة سوى قوة الله - عز وجل - يمكنها أن تساعدكم عند الشدائد والمحن . وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة ، تقيم أوضح الأدلة وأكثرها تأثيرا فى النفوس ، على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى نفاذ مشيئته وإرادته … فهى تتحدى البشر جميعا أن يعيدوا الروح إلى أحب الناس إليهم ، وهم واقفون من حوله وقفة الحائر المستسلم . العاجز عن فعل أى شىء من شأنه أن يدفع عن هذا المحتضر ما فيه من كرب ، أو أن يؤخر انتزاع روحه من جسده ، ولو لزمن قليل … ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك ، فى بيان مصير هذه الروح ، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية فتقول { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } . والروح بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة . أى فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا ، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات … فله عندنا راحة لا تقاربها راحة ، وله رحمة واسعة ، وله طيب رائحة عند قبض روحه ، وعند نزوله فى قبره ، وعند وقوفه بين أيدينا للحساب يوم الدين ، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . { وَأَمَّآ } إن كان هذا الانسان { مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } وهم الذين ثقلت موازين حسناتهم … { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أى فتقول له الملائكة عند قبض روحه وفى قبره ، وفى الجنة ، سلام لك يا صاحب اليمين ، من أمثالك أصحاب اليمين . قال الآلوسى وقوله { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } قيل هو على تقدير القول . أى فيقال لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين . وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم فى خير . أى كن فارغ البال من جهتهم فإنهم بخير . وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة ، كلام يفيد عظمة حالهم ، كما يقال فلان ناهيك به ، وحسبك أنه فلان ، إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل … { وَأَمَّآ إِن كَانَ } هذا المتوفى { مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } وهم أصحاب الشمال { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أى فله نزل - أى مكان - { مِّنْ حَمِيمٍ } أى من ماء قد بلغ أقصى درجات الحرارة وعبر عن المكان الذى ينزل فيه بالنزل ، على سبل التهكم ، إذا النزل فى الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبل التكريم … وقوله { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أى وله - أيضا - إدخال فى نار جهنم التى تشوى جسده وتحرقه . { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } أى إن هذا الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة وغيرها ، لهو الحق الثابت الذى لا يحوم حوله شك أو ريب . . فقوله { حَقُّ ٱلْيَقِينِ } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أى لهو اليقين الحق … أو هو من إضافة الشىء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، كما فى قوله - تعالى - { حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } إذ الحبل هو الوريد ، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فنزه ربك العظيم فى ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، عن كل ما لا يليق به … وبعد فهذا تفسير لسورة " الواقعة " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم …