Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 14-19)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ … } للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين ، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم ، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين … أى ألم ينته إلى علمك - أيها الرسول الكريم - حال أولئك المنافقين ، الذين اتخذوا اليهود أولياء ، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم . فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم اليهود ، ووصفهم بذلك للتنفير منهم ، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية فى القبح والسوء ، حيث وَالَوْا وناصروا من غضب الله عليهم ، لا من رضى الله عنهم . ثم دمغ - سبحانه - هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } أى أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا ، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم - أيها المؤمنون - وليسوا - أيضا - منهم ، أى من اليهود . وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة ، فهم كما قال - سبحانه - { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ … } وفى الحديث الشريف " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين - أى المترددة ين قطيعين - لا تدرى أيهما تتبع " . قال الجمل وقوله { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } فيه أوجه . أحدها أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإِعراب ، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص ، بل هم كقوله - تعالى - { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ … } والضمير فى قوله { مَّا هُم } يعود على المنافقين ، وفى قوله { مِنْهُمْ } يعود على اليهود . الثانى أنها حال من فاعل " تولوا " والمعنى على ما تقدم . الثالث أنها صفة ثانية لقوله " قوما " ، وعليه يكون الضمير فى قوله " ما هم " يعود على اليهود ، والضمير فى قوله " منهم " يعود على المنافقين . يعنى أن اليهود ليسوا منكم - أيها المؤمنون - ولا من المنافقين . ومع ذلك تولاهم " المنافقون " … إلا أن فى هذا الوجه تنافرا بين الضمائر ، فإن الضمير فى " ويحلفون " عائد على المنافقين ، وعلى الوجيهن الأولين تتحد الضمائر " . ثم دمغهم - سبحانه - برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . أى أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين ، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة ، لا من دين ولا من نسب … وفضلا عن كل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع ، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم هؤلاء المنافقين . بجملة من الصفات القبيحة ، التى على رأسها تعمدهم الكذب ، وإصرارهم عليه . قال صاحب الكشاف " قوله { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ } أى يقولون والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذى هو ادعاء الإِسلام ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن المحلوف عليه كذب بحت . فإن قلت فما فائدة قوله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت الكذب أن يكون لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أم لم يعلم … فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك معتمدون له ، كمن يحلف بالغموس … " . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها " أنها نزلت فى رجل يقال له عبد الله بن نَبْتَل - وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرفعون حديثه إلى اليهود ، وفى يوم من الأيام كان - صلى الله عليه وسلم - جالسا فى إحدى حجراته ، فقال لمن حوله " يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار ، وينظر بعينى شيطان " فدخل ابن نبتل ، - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال له - صلى الله عليه وسلم - " علام تشتمنى أنت وأصحابك " ؟ فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - " فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه " ، فنزلت هذه الآية . ومن الآيات الكثيرة التى صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله - تعالى - { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ثم بين - سبحانه - ما أعده لهم من عذاب فقال { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } أى هيأ الله - تعالى - لهؤلاء المنافقين عذابا قد بلغ النهاية فى الشدة والألم . وجملة { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تعليل لنزول العذاب الشديد بهم ، أى إن هذا العذاب الشديد المهيأ لهم سببه سوء أعمالهم فى الدنيا ، واستحبابهم العمى على الهدى . وقوله - سبحانه - { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّه … } بيان لرذيلة رابعة أو خامسة ، لا تقل في قبحها عما سبقها من رذائل ، وقوله { أَيْمَانَهُمْ } جمع يمين بمعنى الحلف . وقوله { جُنَّةً } من الجَنِّ بمعنى الستر عن الخاصة ، وهذه المادة وما اشتق منها تدول حول الستر والخفاء . وتطلق الجنة على الترس الذى يضعه المقاتل على صدره أن على ذراعيه ليتقى به الضربات من عدوه . ومفعول { فَصَدُّواْ } محذوف للعلم به . أى أن هؤلاء المنافقين قد اتخذوا أيمانهم الكاذبة . وهى حلفهم للمسلمين بأنهم معهم ، وبأنهم لايضمرون شرا لهم … اتخذوا من كل ذلك وقاية وسترة عن المؤاخذة ، كما يتخذ المقاتل الترس وقاية له من الأذى … { فَصَدُّواْ } الناس { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى عن دينه الحق ، وطريقه المستقيم . { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى فترتب على تسترهم خلف الأيمان الفاجرة ، وعلى صدهم غيرهم عن الحق ، أن أعد الله - تعالى - لهم عذابا يهينهم ويذلهم . وقوله - سبحانه - { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً … } رد على ما كانوا يزعمونه من أنهم لن يعذبوا ، لأنهم أكثر أموالا وأولادا من المؤمنين . قال القرطبى " قال مقاتل قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة ، فنزلت " . ومن المعروف أن عبد الله بن أبى بن سلول - زعيم المنافقين - ، كان من أغنياء المدينة ، وكان يوطن نفسه على أن يكون رئيسا للمدينة قبيل - الإِسلام ، وهو القائل - كما حكى القرآن عنه - { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } أى أن هؤلاء المنافقين المتفاخرين بأموالهم وأولادهم ، لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الغناء . { أُوْلَـٰئِكَ } المنافقون هم { أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } خلودا أبديا ، ثم بين - سبحانه - حالهم يوم القيامة ، وأنهم سيكونون على مثل حالهم فى الدنيا من الكذب والفجور … فقال - تعالى - { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } . أى اذكر - أيها الرسول الكريم - يوم يبعث الله - تعالى - هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء " فيحلفون " لله - تعالى - فى الآخرة بأنهم مسلمون " كما " كانوا " يحلفون لكم " فى الدنيا بأنهم مسلمون . " ويحسبون " فى الآخرة - لغبائهم وانطماس بصائرهم " أنهم " بسبب تلك الأيمان الفاجرة " على شىء " من جلب المنفعة أو دفع المضرة . أى يتوهمون فى الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم فى تخفيف شىء من العذاب عنهم . { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } أى الذين بلغوا فى الكذب حدا لا غاية وراءه . فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين فى الدنيا ، قد بعثوا والنفاق ما زال فى قلوبهم ، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم . فهم لم يكتفوا بكذبهم علىالمؤمنين فى الدنيا ، بل وفى الآخرة - أيضا - يحلفون لله - تعالى - بأنهم كانوا مسلمين . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية يعنى ليس العجب من حلفهم لكم - فى الدنيا بأنهم مسلمون - فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر . ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة - بأنهم كانوا مسلمين فى الدنيا . والمراد وصفهم بالتوغل فى نفاقهم ، ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل " . وقال بعض العلماء ما ملخصه وقوله { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } حذفت صفة شىء ، لظهور معناها من المقام ، أى ويحسبون أنهم على شىء نافع . وهذا يقتضى توغلهم فى النفاق ، ومرونتهم عليه ، وأنه باق فى أرواحهم بعد بعثهم ، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا فى عالم التكليف . وفى الحديث أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله له أولست فيما شئت ؟ قال بلى يا ربى ولكن أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر ، فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤُه واستحصادُه أمثالَ الجبال . وكان رجل من أهل البادية عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا ، فإنهم أصحاب زرع ، فأما نحن - أى أهل البوادى - فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبى - صلى الله عليه وسلم - إقرارا لما فهمه الأعرابى " . وفى حديث جابر بن عبد الله الذى رواه الإِمام مسلم فى صحيحه ، " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال يبعث كل عبد على ما مات عليه " . قال عياض هو عام فى كل حالة مات عليها المرء ، وقال السيوطى يبعث الزمار بمزماره ، وشارب الخمر بقدحه . قلت " ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هى عليه ، إذ تصير العلوم على الحقيقة " . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت المنافقين ينغمسون فى نفاقهم فقال { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ … } . وقوله { ٱسْتَحْوَذَ } من الحوذ وهو أن يتبع السائق حاذيى البعير ، أى أدبار فخذه ثم يسوقه سوقا عنيفا ، لا يستطيع البعير الفكاك منه … والمراد به هنا شدة الاستيلاء والغلبة … ومنه قول السيدة عائشة فى عمر - رضى الله عنهما - " كان أحوذيا " أى كان ضابطا للأمور ، ومستوليا عليها استيلاء تاما … والمعنى إن هؤلاء المنافقين قد استولى عليهم الشيطان استيلاء تاما ، بحيث صيرهم تابعين لوساوسه وتزيينه ، فهم طوع أمره ، ورهن إشارته ، فترتب على طاعتهم له أن أنساهم طاعة الله - تعالى - ، وحسابه ، وجزاءه ، فعاشوا حياتهم يتركون ما هو خير ، ويسرعون نحو ما هو شر … { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات القبيحة { حِزْبُ الشَّيْطَانِ } أى جنوده وأتباعه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } خسارة لا تقاربها خسارة ، لأنهم آثروا العاجل على الآجل ، والفانى على الباقى ، والضلال على الهدى … ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان سنة من سننه فى خلقه ، وهى أن الذلة والصغار لأهل الباطل ، والعزة والغلبة لأهل الحق … الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، فقال - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ … } .