Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 123-126)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أكابر جمع أكبر ، وهم الرؤساء والعظماء فى الأمم . والمجرمون جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإِثم . والمعنى وكما جعلنا فى قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا فى كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة فى كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين . قال الجمل وقوله { أَكَابِرَ } مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } المفعول الثانى لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله @ كذا إذا عاد عليه مضمر مما به عنه مبينا يخبر @@ هذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال . وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء فى كفرهم وفجورهم . قال ابن كثير والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله - تعالى - إخباراً عن قوم نوح { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } وكقوله { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } الآية . وقوله - سبحانه - { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } . أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين فى كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم فى الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون فى مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين . فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله ، وفى ذلك تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير . وجملة { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون ، وهى تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل . ثم حكى القرآن لوناً من ألوان مكرهم فقال { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } . أى وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإِيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة . روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبى صلى الله عليه وسلم " لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سناً وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية " . وقال مقاتل " نزلت فى أبى جهل وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد المطلب فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية " . وقد رد الله - تعالى - على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أى الله - سبحانه - أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو - سبحانه - يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها . ويهب نفسه لها ، وينسى فى سبيلها ذاته . قال الإِمام الرازى " وقوله - تعالى - { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أى أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصاً موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله - تعالى - ثم قال وفى هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهى أن أقل ما لا بد منه فى حصول النبوة والرسالة والبراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات " . وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه . ولذا قال الإِمام الآلوسى " وجملة { ٱللَّهُ أَعْلَمُ } … الخ . استئناف بيانى ، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى - بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده " . هذا . وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبى صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه الإِمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله - عز وجل - اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم " . وروى الإِمام أحمد عن المطلب عن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلنى فى خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلنى فى خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ، فجعلنى فى خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " . ثم بين - سبحانه - عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبى - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من فضله فقال { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } . قال القرطبى ما ملخصه " الصغار الضيم والذل والهوان . والمصدر الصغر بالتحريك - وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل أصله من الصغر وهو الرضا بالذل . والصاغر الراضى بالذل . وأرض مصغرة نبتها صغير لم يطل . ويقال صغر - بالكسر - يصغر صغراً وصغاراً فهو صاغر إذا ذل وهان " . والمعنى سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله فى الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه . والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد . والعندية فى قوله " عند الله " مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه - وقضائه فيهم بذلك ، كقولهم ثبت عند فلان القاضى كذا أى فى حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم فى الدنيا . قال ابن كثير ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف فى التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحداً . وجاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ينصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة فيقال " هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة فى ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشوراً على صاحبه بما فعل " . ثم بين - سبحانه - حال المستعد لهداية الإِسلام ، وحال المستعد للضلال فقال { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } . أى فمن يرد الله أن يهديه للإِسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه . وشرح الصدر توسعته ، يقال شرح الله صدره فانشرح ، أى وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها . مصفاة عما يمنعه وينافيه . روى عبد الرازق أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية كيف يشرح صدره ؟ فقال " نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافى عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " . وقوله { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإِسلام . والحرج مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى ضاق ضيقا شديداً . وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشىء ويقال للحديقة الملتفة الأشجار التى يصعب دخولها حرجة . وقرىء حرجا - بكسر الراء - صفة لقوله { ضَيِّقاً } . روى أن جماعة من الصحابة قرأوا أمام عمر - رضى الله عنه - " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " بكسر الراء فقال عمر " يا فتى ما الحرجة فيكم ؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التى لا تصل إليها راعية ولا وحشية . فقال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير " . وقوله { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ، والمراد المبالغة فى ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة . أى كأنما إذا دعى إلى الإِسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال . ويصعد أى يتصعد ، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه . وفيه إشارة إلى أن الإِيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود . وقوله { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أى مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإِسلام ، يجعل الله الرجس . أى العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة فى الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإِسلام . ثم بين - سبحانه - أن طريق الإِسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } أى وهذا البيان الذى جاء به القرآن ، أو سبيل التوحيد ، وإسلام الوجه إلى الله ، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذى ارتضاه لعباده ، والذى لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط فى الاعتقادات والأخلاق والأعمال . و { مُسْتَقِيماً } حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا ، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإِشارة أو ها التى للتنبيه . وقوله { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أى جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها لينالوا السعادة فى الدنيا والآخرة . * * * ثم بين - سبحانه - ما أعده للمتذكرين فقال { لَهُمْ دَارُ … } .