Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 17-21)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المس أعم من اللمس فى الاستعمال . يقال مسه السوء والكبر والعذاب والتعب . أى أصابه ذلك ونزل به . " والضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما " . والخير اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله . والمعنى إن الناس جميعاً تحت سلطان الله وقدرته ، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة الله فى هذه الحياة ، فلا كاشف له إلا هو ، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو - سبحانه - قادر على حفظه عليهم ، وإبقائه لهم ، لأنه على كل شىء قدير . والخطاب فى الآية يصح أن يكون موجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم لتقويته فى دعوته ، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم ، كما يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب . قال صاحب المنار " ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة ، تجرى الحقائق بأوجز العبارات ، وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفته بعضها فى بادىء الرأى لما هو الأصل فى التعبير ، كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله ليس شرا فى الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وأدباً وعلماً وخبرة . وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب فى الآخرة مقدم على النعيم " . وقوله { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } جوابه محذوف تقديره فلا راد له غيره . وقوله { فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } تعليل لكل من الجوابين المذكورين فى الشرطية الأولى والمحذوف فى الثانية . وفى معنى هذه الآية جاءت آيات أخرى منها قوله - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . ثم بين - سبحانه - كمال قدرته ، وعظيم سلطانه فقال { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } . أى أنه - كما قال ابن كثير - " هو الذى خضعت له الرقاب ، وذلت له الجباه . وعنت له الوجوه ، وقهر كل شىء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء ، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه " . ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى بيان رائع حكيم ، أن يسأل المشركين عن أى شىء فى هذا الكون أعظم وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد فقال - تعالى - { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } . روى بعض المفسرين أن أهل مكة قالوا يا محمد ، أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحدا نصدقه ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله - تعالى - { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } . أى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه أى شىء فى هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان ؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التى لا يمارى فيها عاقل وهى أن شهادة الله هى أكبر شهادة وأقواها وأزكاها ، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ ، وقد شهد - سبحانه - بصدقى فيما أبلغه عنه فلماذا تعرضون عن دعوتى ، وتتنكبون الطريق المستقيم ؟ وصدرت الآية الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيهاً إلى جلال الشاهد ، وإلى سلامة دعوى النبى صلى الله عليه وسلم لكى يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال . وأوثرت كلمة " شىء " فى قوله - تعالى - { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } لأنها تفيد الشمول والإِحاطة والاستقصاء . قال صاحب الكشاف ما ملخصه قوله - تعالى - { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أراد أى شهيد أكبر شهادة ، فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ فى التعميم ، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله { قُلِ ٱللَّهِ } بمعنى الله أكبر شهادة ، ثم ابتدأ . { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أى هو شهيد بينى وبينكم . وأن يكون { ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } هو الجواب ، لدلالته على أن الله - تعالى - إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شىء شهادة من هو شهيد له . والمراد بشهادة الله ما جاء فى آياته القرآنية من أنه - سبحانه - قد أرسل رسوله محمدا { بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } ثم بين - سبحانه - أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبى صلى الله عليه وسلم فقال { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } . أى أن الله - تعالى - قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق ، لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به - أيضاً - جميع من بلغه هذا الكتاب الكريم ووصلت إليه دعوته من العرب والعجم فى كل زمان ومكان إلى يوم القيامة . فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبى صلى الله عليه وسلم كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ، وتعم - أيضاً - الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته . ولم يروا النبى صلى الله عليه وسلم ففى الحديث الشريف " بلغوا عن الله - تعالى - فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله " . وعن محمد بن كعب قال " من بلغه القرآن فكأنما رأى النبى صلى الله عليه وسلم وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه ، كان من بلغه فعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذى بلغه بلا زيادة ولا نقصان ، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين ، وإثمه يكون فى أعناق الذين قصروا فى تبليغ دعوة الإِسلام إليه . ثم أمره - سبحانه - أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال - تعالى - { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } . أى قل يا محمد لهؤلاء المشركين إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم . وترديتم فى مهاوى الشرك والضلال ، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى ، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة ، ومحال أن أشهد بما شهدتم به ، وإنما الذى أشهد به وأعتقده ، أن الله - تعالى - واحد لا شريك له ، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم . والاستفهام فى قوله { أَئِنَّكُمْ } إنكارى ، جىء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك ، وأكد قوله { لَتَشْهَدُونَ } للإِشارة إلى تغلغل الضلال فى نفوسهم ، واستيلاء الجحود على قلوبهم . وعبر عن أوثانهم بأنها { آلِهَةً أُخْرَىٰ } مجاراة لهم فى زعمهم الباطل ومبالغة فى توبيخهم والتهكم بهم . وفى أمره - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم " قل لا أشهد " توبيخ لهم على جهالتهم ، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به فى شجاعته أمام الباطل ، وفى ثباته على مبدئه . وقد تضمن قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } اعتراف كامل بوحدانية الله ، وقصرها عليه - سبحانه - ، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها ، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل . وبذلك تكون الآية الكريمة قد تضمنت شهادة من الله - تعالى - بأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فى رسالته ، وشهادة من هذا الرسول الكريم بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه برىء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين . ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم وهى شهادة أهل الكتاب فقال { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال الجمل فى حاشيته على الجلالين " روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر إن الله أنزل على نبيه بمكة { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابنى ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى ! ! فقال عمر كيف ذلك ؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدرى ما تصنع النساء " . والمعنى إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهى معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته . والضمير فى { يَعْرِفُونَهُ } يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبى صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه فى قوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ } أو على التوحيد لدلالة قوله { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } . والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما فى كتابهم يتناول كل ذلك . ثم بين - سبحانه - علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وقالوا { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } وقالوا " الملائكة بنات الله " ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم . وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذى سقناه عن عمر - رضى الله عنه - فقد قال لعبد الله بن سلام " إن الله أنزل على نبيه بمكة " إلخ . ويؤكد كونها مكية - أيضا - سياق الآيات قبلها ، فالآية التى قبلها وهى قوله - تعالى - { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } . إلخ . فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التى معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة . قال بعض العلماء ويظهر أنهم - أى القائلون بأن الآية مدنية - لما وجدوا الحديث فى هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهى قوله - تعالى - فى سورة البقرة { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الاية 146 ، ومن المعروف أن صلة الإِسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفى المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهاداً حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح . ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال - تعالى - فى شأنهم { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } . أى لا أحد أشد ظلماً من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وإن هؤلاء الذين سقطوا فى أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا ، والاستفهام فى الآية الكريمة إنكارى للنفى ، وفيه توبيخ للمشركين . ثم بين - سبحانه - بعض أحوالهم عندما يحشرون يوم القيامة ، فقال - تعالى - { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ … } .