Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 4-6)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المعنى الإِجمالى للآية الأولى أن هؤلاء الجاحدين لرسالات الله ، لا تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على صدقك - يا محمد - فيما تبلغه عن ربك إلا تلقوها بالإِعراض ، واستقبلوها بالنبذ والاستخفاف . فالآية الكريمة ، كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله - تعالى - وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله - تعالى - وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد . وامترائهم فى البعث ، وإعراضهم عن أدلته . و { مِّنْ } الأولى لاستغراق الجنس الذى يقع فى حيز النفى ، كقولك ما آتانى من أحد والثانية للتبعيض ، أى ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التى توجب النظر والتأمل والاعتبار ، إلا أهملوه وأعرضوا عنه . لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم للعواقب . وإضافة الآيات إلى اسم الرب - عز وجل - تدل على تفخيم شأنها ، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو تكذيب لما عرفوا مصدره ، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم فى الكفر والجحود . والآية الكريمة بأسلوبها المتضمن الحصر ، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام ، والاستمرار ، تفيد أن الإِعراض عن الحق دأبهم ، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت معالمه ، وأسفرت حججه . ثم بين - سبحانه - أنهم لم يكتفوا بالإِعراض عن الحق ، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته ، والتطاول عليهم ، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال - تعالى - { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } . فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم ، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق . وقد بين الفخر الرازى مراحل تماديهم فى الباطل كما صورها القرآن فقال " اعلم أنه - تعالى - رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب فالمرتبة الأولى كونهم معرضين عن التأمل فى الدلائل والتفكر والبينات . والمرتبة الثانية كونهم مكذبين بها ، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها ، لأن المعرض عن الشىء قد لا يكون مكذبا به ، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له ، فإذا صا مكذبا به فقد زاد على الإِعراض . والمرتبة الثالثة كونهم مستهزئين بها ، لأن المكذب بالشىء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء ، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى فى الإِنكار ، فبين - سبحانه - أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب " . والمراد بالحق الذى كذبوا به قيل إنه القرآن ، وقيل إنه المعجزات ، وقيل إنه الشرع الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنه الوعد الذى يرغبهم به تارة ، والوعيد الذى يحذرهم بسببه تارة أخرى … والذى نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك ، لأنهم بعدم دخولهم فى الإِسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . والتعبير بقوله { لَمَّا جَآءَهُمْ } يفيد أن الحق قد وصل إليهم ، وطرق قلوبهم وأسماعهم ، ولكنهم عموا وصموا عنه . والأنباء جمع نبأ وهو ما يعظم من الأخبار ، والمراد بها فى قوله - تعالى - { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } الإِخبار عن العذاب الذى توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم ، ونظيره قوله - تعالى - { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } قال صاحب الكشاف { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ } الشىء الذى { كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وهو القرآن ، أى أخباره وأحواله ، بمعنى سيعملون بأى شئ استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم فى الدنيا أو فى يوم القيامة أو عند ظهور الإِسلام وعلو كلمته . ثم ساق القرآن لهم على سبيل النصيحة والإِرشاد أخبار من سبقوهم فى الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم ليعتبروا ويتعظوا فقال - تعالى - { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } . قال القرطبى " القرن الأمة من الناس والجمع القرون . قال الشاعر @ إذا ذهب القرن الذى كنت فيهم وخلفت فى قرن فأنت غريب @@ فالقرن كل عالم فى عصره ، مأخوذ من الاقتران ، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض ، وفى الحديث الشريف " خير الناس قرنى - يعنى أصحابى - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " فالقرن على هذا مدة من الزمان ، قيل ستون عاما ، وقيل سبعون ، وقيل ، ثمانون ، وقيل مائة - وعليه أكثر أصحاب الحديث - أن القرن مائة سنة ، واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله ابن بشر " تعيش قرنا " فعاش مائة . والاستفهام الذى صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم ، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاءن وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه . والتقدير أعموا عن الحق وأعرضوا عن دلائله ، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا . وجملة { أَهْلَكْنَا } سدت فسد مفعول رأى إن كانت بصرية ، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية ، و { كَمْ } مفعول مقدم لأهلكنا ، و { مِن قَبْلِهِم } على حذف المضاف ، أى من قبل زمنهم ووجودهم . قال صاحب المنار وكان الظاهر أن يقال مكناهم فى الأرض - أى القرون - ما لم نمكنهم ، أى الكفار المحكى عنهم المستفهم عن حالهم ، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، لما فى إيراد الفعلين بضميرى الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما ، وكون المثبت عين المنفى ، فقيل ما لم نمكن لكم . و { مَا } في قوله { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذى ، وهى حينئذ صفة لمصدر محذوف . والتقدير مكناهم فى الأرض التمكين الذى لم نمكن لكم ، والعائد محذوف أى الذى لم نمكنه لكم . ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف . أى مكناهم فى الأرض شيئاً لم نمكنه لكم . وفى تعدية الأول وهو { مَّكَّنَّاهُمْ } بنفسه والثانى هو { نُمَكِّن لَّكُمْ } باللام إشارة إلى أن السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإِسلام ، وهذا أعظم فى باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم . هذا ، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم . وصفهم - أولا - بأنهم كانوا أوسع سلطانا ، وأكثر عمرانا ، وأعظم استقراراً ، كما يفيده قوله تعالى { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } . قال صاحب الكشاف " والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة فى الأجسام ، والسعة فى الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا " . ووصفهم - ثانيا - بأنهم كانوا أرغد عيشا ، وأسعد حالا ، وأهنأ بالا ، يدل على ذلك قوله تعالى { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } أى أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة ، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها . ووصفهم - ثالثا - بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التى يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم على ضفافها . ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجميلة ، كما يرشد إليه قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أى صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم . ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التى لم تتيسر لأهل مكة كانت عاقبتهم - كما أخبر القرآن عنهم - { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أى فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك ، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم . والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران أحدهما أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد فى الأرض ، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها . والمظهر الثانى إهلاك الله - تعالى - لها عقابا على أوزارها . وقوله - تعالى - فى ختام الآية { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } يدل على كمال قدرة الله ، ونفاذ إرادته ، وأن إهلالكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا ، لأنه - سبحانه - كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى . قال - تعالى - { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } ثم بين القرآن توغلهم فى الجحود والعناد ، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته ، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال - تعالى - { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً … } .