Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 60, Ayat: 12-12)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فهذه الآية الكريمة ، اشتملت على أحكام متممة للأحكام المشتملة عليها الآيتان السابقتان عليها . فكأن الله - تعالى - يقول { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } وبايعهن أيها الرسول الكريم على إخلاص العبادة لله - تعالى - . قال القرطبى ما ملخصه وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت " كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحن بهذه الآية … وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انطلقن فقد بايعتكن " . ولا والله ما مست يَدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَ امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام … وما مست كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كف امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن " قد بايعتكن كلاما " . والمعنى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } أى مبايعات لك ، أو قاصدات مبايعتك ، ومعاهدتك على الطاعة لما تأمرهن به ، أو تنهاهن عنه . وأصل المبايعة مقابلة شىء بشىء على سبيل المعاوضة . وسميت المعاهدة مبايعة ، تشبيها لها بها ، فإن الناس إذا التزموا قبول ما شرط عليهم من التكاليف الشرعية ، - طمعا فى الثواب ، وخوفا من العقاب ، وضمن لهم - صلى الله عليه وسلم - ذلك فى مقابلة وفائهم بالعهد - صار كأن كل واحد منهم باع ما عنده فى مقابل ما عند الآخر . والمقتضى لهذه المبايعة بعد الامتحان لهن ، أنهن دخلن فى الإِسلام ، بعد أن شرع الله - تعالى - ما شرع من أحكام وآداب … فكان من المناسب أن يأخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهن العهود ، بأن يلتزمن بالتكاليف التى كلفهن الله - تعالى - بها . ثم بين - سبحانه - ما تمت عليه المبايعة فقال { عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً } أى يبايعنك ويعاهدنك على عدم الإِشراك بالله - تعالى - فى أى أمر من الأمور التى تتعلق بالعقيدة أو بالعبادة أو بغيرهما . { وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ } . أى ويبايعنك - أيضا - على عدم ارتكاب فاحشة السرقة ، أو فاحشة الزنا ، فإنهما من الكبائر التى نهى الله - تعالى - عنها . { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } أى ويبايعنك كذلك ، على عدم قتلهن لأولادهن . والمراد به هنا النهى عن قتل البنات ، وكان ذلك فى الجاهلية يقع تارة من الرجال ، وأخرى من النساء ، فكانت المرأة إذا حانت ولادتها حفرت حفرة ، فولدت بجانبها ، فإذا ولدت بنتا رمت بها فى الحفرة ، وسوتها بالتراب ، وإذا ولدت غلاما أبقته . قال ابن كثير وقوله { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإِملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحبل ، إما لغرض فاسد ، أو ما أشبهه . وقوله { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } معطوف على ما قبله وداخل تحت النهى . والبهتان الخبر الكاذب الصريح فى كذبه ، والذي يجعل من قيل فيه يقف مبهوتا ومتحيرا من شدة أثر هذا الكذب السافر . والافتراء اختلاق الكذب واختراع الشخص له من عند نفسه . وللمفسرين فى معنى هذه الجملة الكريمة أقوال ، منها أن المرأة فى الجاهلية كانت تلتقط المولود وتقول لزوجها هذا ولدى منك ، فذلك هو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، لأن الولد إذا وضعته الأم ، سقط بين يديها ورجليها . ويرى بعضهم أن معنى الجملة الكريمة ولا تأتوا بكذب شنيع تختلقونه من جهة أنفسكم ، فاليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما ، ولذا قيل لمن ارتكب جناية قولية أو فعلية هذا جزاء ما كسبت يداك . وقوله - سبحانه - { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } من الأقوال الجامعة لكل ما يخبر به النبى - صلى الله عليه وسلم - ويأمر بفعله ، أو ينهى عن الاقتراب منه . ويشمل ذلك النهى عن شق الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات التى نهى الإِسلام عنها . وقوله - سبحانه - { فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ } جواب { إِذَا } التى فى أول الآية . أى إذا جاءك المؤمنات قاصدات لمبايعتك على الالتزام بتعاليم الإِسلام ، فبايعهن على ذلك … واستغفر لهن الله - تعالى - عما فرط منهن من ذنوب ، . { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين . وهذه المبايعة يبدو أنها وقعت منه - صلى الله عليه وسلم - للنساء أكثر من مرة إذ منها ما وقع فى أعقاب صلح الحديبية ، بعد أن جاءه بعض النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، كما حدث من أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، ومن سُبَيْعَةَ الأسلمية ، ومن أميمة بنت بشر ، ومن غيرهن من النساء اللائى تركن أزواجهن الكفار ، وهاجرن إلى دار الإِسلام . ومنها ما وقع فى أعقاب فتح مكة ، فقد جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد فتحها نساء من أهلها ليبايعنه على الإِسلام . قال الآلوسى والمبايعة وقعت غير مرة ، ووقعت فى مكة بعد الفتح ، وفى المدينة . وممن بايعنه - صلى الله عليه وسلم - فى مكة ، هند بنت عتبة ، زوج أبى سفيان … فقرأ عليهن - صلى الله عليه وسلم - الآية ، فلما قال { وَلاَ يَسْرِقْنَ } قالت والله إنى لأصيب الهنة من مال أبى سفيان ولا أدرى أيحل لى ذلك ؟ فقال أبو سفيان ما أصبت من شىء فيما مضى فهو حلال لك . . فلما قرأ - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ يَزْنِينَ } قالت أو تزنى الحرة ؟ … فلما قرأ { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } قالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا . وفى رواية أنها قالت قتلتَ الآباء وتوصينا بالأولاد . فلما قرأ - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ } قالت والله إن البهتان لقبيح ، ولا يأمر الله - تعالى - إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فلما قرأ { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفى أنفسنا أن نعصيك فى شىء . والتقييد بالمعروف ، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا به ، للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق فى معصية الخالق . وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر فى حقهن ، لكثرة وقوعها فيما بينهن . وقد ذكر الإِمام ابن كثير ، جملة من الأحاديث التى تدل على أن هذه البيعة قد تمت فى أوقات متعددة ، وفى أماكن مختلفة ، وأنها شملت الرجال والنساء . ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإِمام أحمد عن سلمى بنت قيس - إحدى نساء بنى عدى بن النجار - قالت " جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبايعه ، فى نسوة من الأنصار ، فشرط علينا ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزنى ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه فى معروف … ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " ولا تغششن أزواجكن " . قالت فبايعناه ، ثم انصرفنا . فقلت لامرأة منهن ارجعى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسليه ما غش أزواجنا ؟ فسألته فقال " تأخذ ماله فتحابى به غيره " . وفى الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى مجلس فقال بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم … فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " . وكما افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بنداء للمؤمنين ، نهاهم فيه عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، اختتمها - أيضا - بنداء لهم ، نهاهم فيه مرة أخرى عن مصافاة قوم قد غضب الله عليهم ، فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .