Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 60, Ayat: 7-9)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" عسى " فعل مقاربة يدل على الرجاء ، وإذا صدر من الله - تعالى - كان متحقق الوقوع ، لصدوره من أكرم الأكرمين . قال صاحب الكشاف " عسى " وعد من الله على عادات الملوك ، حيث يقولون فى بعض الحوائج عسى أو لعل ، فلا تبقى شبهة للمحتاج فى تمام ذلك ، أو قصد به إطماع المؤمنين . وقال الجمل فى حاشيته لما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار ، عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة . وعلم الله شدة ذلك على المؤمنين ، فوعد - سبحانه - المسلمين بإسلام أقاربهم الكفار ، فيوالونهم موالاة جائزة ، وذلك من رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ، ورأفته بهم ، فقال { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } . والمعنى عسى الله - تعالى - أن يجعل بينكم - أيها المؤمنون - وبين الذين عاديتموعم من أقاربكم الكفار ، مودة ومحبة … بأن يهديهم إلى الدخول فى دين الإِسلام ، فتتحول عداوتكم لهم ، إلى أخوة صادقة . وصلة طيبة ، ومحبة شديدة . وقد أنجز الله - تعالى - وعده ، فهدى كثيراً من كفار قريش إلى الدخول فى الإِسلام ، والتقوا هم وأقاربهم الذين سبقوهم إلى الإِسلام ، على طاعة الله ومحبته ، والدفاع عن دينه ، وبذل أنفسهم وأموالهم فى سبيله . { وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى والله - تعالى - شديد القدرة على أن يغير أحوال القلوب ، فيصبح المشركون مؤمنين ، والأعداء أصدقاء ، والله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة ، لمن استجاب لأمره ونهيه ، وأقلع عن المعصية إلى الطاعة ، ونبذ الكفر وتحول إلى الإِيمان . فالآية الكريمة بشارة عظيمة للمؤمنين ، بأنه - سبحانه - كفيل بأن يجمع شملهم بكثير من أقاربهم الكافرين ، وبأن يحول العداء الذى بينهم ، إلى مودة ومحبة ، بسبب التقاء الجميع على طاعة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له . وقد تم ذلك بصورة موسعة ، بعد أن فتحت مكة ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا . ثم بين - سبحانه - للمؤمنين القاعدة التى يسيرون عليها فى مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم . فقال - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } . وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها روايات منها ، ما أخرجه البخارى وغيره " عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت أتتنى أمى راغبة - أى فى عطائى - وهى مشركة فى عهد قريش … فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأصلها ؟ فأنزل الله - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ } . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم صلى أمك " " . وروى الإِمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال قدمت قتيلة بنت عبد العزى - وهى مشركة - على ابنتها اسماء بنت أبى بكر بهدايا ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة ، لكى تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فسألته ، فأنزل الله - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ } . وقال الحسن وأبو صالح نزلت هذه الآية فى قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه . وقال مجاهد نزلت فى قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم ، لتركهم فرض الهجرة . قال الآلوسى - بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما - والأكثرون على أنها فى كفرة اتصفوا بما فى حيز الصلة … والذى تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين ، ترسمان للمسلمين المنهج الذى يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم ، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار ، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا ، فلا يأس من بره وصلته . ومن قاتلنا ، وحاول إيذاءنا منهم . فعلينا أن نقطع صلتنا به ، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه ، حتى لا يتجاوز حدوده معنا . والمعنى { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ } تعالى - أيها المؤمنون - { عَنِ } مودة وصلة الكافرين { ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أى لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون ، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم ، كالعمل على إخراجكم من دياركم . لا ينهاكم الله - تعالى - عن { أَن تَبَرُّوهُمْ } أى عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم . وعن أن { تُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ } أى تقضوا إليهم بالعدل ، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم ، ولا تجوروا عليهم فى حكم من الأحكام . { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أى العادلين فى أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم ، الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم العدل من أنفسهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم . { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ } - تعالى - { عَنِ } بر وصلة { ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ } أى قاتلوكم لأجل أنكم على غير دينهم { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } التى تسكنونها { وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ } . أى وعاونوا غيرهم على إخراجكم من دياركم ، يقال ظاهر فلان فلانا على كذا ، إذا عاونه فى الوصول إلى مطلبه . وقوله { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل اشتمال من { ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ } أى ينهاكم - سبحانه - عن موالاة ، ومواصلة ، وبر الذين قاتلوكم فى الدين ، وأخرجوكم من دياركم . { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أى ومن يبر منكم - أيها المؤمنون - هؤلاء الذين قاتلوكم { فَأُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لأنفسهم ظلما شديدا يستحقون بسببه العقاب الذى لا يعلمه إلا هو - سبحانه - . فأنت ترى أن الآية الأولى قد رخصت لنا فى البر والصلة - قولا وفعلا - للكفار الذين لم يقاتلونا لأجل ديننا ، ولم يحاولوا الإِساءة إلينا ، بينما الآية الثانية قد نهتنا عن البر أو الصلة لأولئك الكافرين ، الذين قاتلونا من أجل مخالفتنا لهم فى العقيدة ، وحاولوا إخراجنا من ديارنا أو أخرجوا بعضنا بالفعل - وعاونوا غيرهم على إنزال الأذى بنا . هذا ، ويرى بعض العلماء أن الآية الأولى منسوخة . قال القرطبى قال ابن زيد كان هذا فى أول الإِسلام عند الموادعة ، وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ هذا الحكم . قال قتادة نسخها قوله - تعالى - { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والذى عليه المحققون من العلماء ، أن الآية محكمة وليست منسوخة ، لأنها تقرر حكما يتفق مع شريعة الإِسلام فى كل زمان ومكان ، وهو أننا لا نؤذى إلا من آذانا ، ولا نقاتل إلا من أظهر العداوة لنا بأية صورة من الصور . وأقوال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تؤيد عدم النسخ ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الوفود التى تأتيه لمناقشتها فى بعض الأمور الدينية ، مقابلة كريمة ، ويتجلى ذلك فيما فعله مع وفد نجران ، ووفد تميم وغيرهما . كذلك مما يؤيد عدم النسخ ، أنه لا تعارض بين هذه الآية ، وبين آية السيف ، لأن الأمر بالقتال إنما هو بالنسبة لقوم يستحقونه ، بأن يكونوا قد قالتونا أو أخرجونا من ديارنا ، كما جاء فى الآية الثانية . وأما الرخصة فى البر والصلة ، فهى فى شأن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ، وهذا ما صرحت به الآية الأولى . ورحم الله الإِمام ابن جرير فقد قال بعد أن ذكر الآراء فى ذلك وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال عنى بقوله - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ … } جميع أصناف الملل والأديان ، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم … ويشمل ذلك من كانت تلك صفته ، دون تخصيص لبعض دون بعض . ولا معنى لقول من قال ذلك منسوخ ، لن بر المؤمن من أهل الحرب ، ممن بينه وبينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب ، غير محرم ، ولا منهى عنه ، إذا لم يكن فى ذلك ، دلالة له أو لأهل الحرب ، على عورة لأهل الإِسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح . ثم انتقلت السورة الكريمة إل بيان بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء المؤمنات ، اللاتى تركن أزواجهن الكفار ، ورغبن فى الهجرة إلى دار السلام فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا … } .