Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 62, Ayat: 1-4)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتحت سورة " الجمعة " كغيرها من أخواتها " المسبحات " بالثناء على الله - تعالى - وببيان أن المخلوقات جميعها ، تسبح بحمده - تعالى - وتقدس له . والتسبيح تنزيه الله - تعالى - عما لا يليق به ، اعتقادا وقولا وعملا مأخوذ من السبح وهو المر السريع فى الماء أو الهواء ، لأن المسبح لله ، - تعالى - مسرع فى تنزيهه - تعالى - وتبرئته من كل سوء . وقوله { ٱلْقُدُّوسِ } من التقديس بمعنى التعظيم والتطهير وغير ذلك من صفات الكمال . أى أن التسبيح نفى ما لا يليق بذاته - تعالى - ، والتقديس إثبات ما يليق بجلاله - سبحانه - والمعنى ينزه الله - تعالى - ويبعده عن كل نقص ، جميع ما فى السماوات ، وجميع ما فى الأرض من مخلوقات ، فهو - سبحانه - { ٱلْمَلِكِ } أى المدبر لشئون هذا الكون ، المتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه … { ٱلْقُدُّوسِ } أى البليغ فى الطهارة وفى التنزه عن كل نقص ، من القُدْس - ضم القاف وسكون الدال - بمعنى الطهر ، وأصله القَدَس - بفتح القاف والدال - وهو الإِناء الذى يكون فيه ما يتطهر به ، ومنه القادوس وهو إناء معروف . { ٱلْعَزِيزِ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمِ } فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . هذا ، ومن الآيات الكثيرة الدالة على أن جميع من فى السماوات ومن فى الأرض ، يسبحون لله - تعالى - قوله - عز وجل - { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً … } ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على خلقه ، فقال { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ … } . وقوله { ٱلأُمِّيِّينَ } جمع أمى ، وهو صفة لموصوف محذوف . أى فى الناس أو فى القوم الأميين ، والمراد بهم العرب ، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة . وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى ، لغلبة الأمية عليه ، حتى لكأن حاله بعد تقدمه فى السن ، كحاله يوم ولدته أمه فى عدم معرفته للقراء ة والكتابة . و " من " فى قوله - تعالى - { مِّنْهُمْ } للتبعيض ، باعتبار أنه واحد منهم ، ويشاركهم فى بعض صفاتهم وهى الأمية . وقوله { يَتْلُواْ … } من التلاوة ، وهى القراءة المتتابعة المرتلة ، التى يكون بعضها تلو بعض . وقوله { وَيُزَكِّيهِمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح . والمراد بالكتاب القرآن ، والمراد بتعليمه بيان معانيه وحقائقه ، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه … والمراد بالحكمة العلم النافع ، المصحوب بالعمل الصالح ، وفى وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة ، إذ بالكتاب وبالسنة ، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال ، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب ، وأسمى الفضائل . . أى هو - سحبانه - وحده ، الذى { بَعَثَ } بفضله وكرمه ، { فِي } العرب { ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً } كريما عظيما ، كائنا { مِّنْهُمْ } أى من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه … هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم ، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم ، متى آمنوا بها ، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية … وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم ، أى وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب ، بأن يحفظهم إياه ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه . وليعلمهم - أيضا - الحكمة . أى العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة ، لتربية المهابة فى النفوس ، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام ، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره . وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى - { فِي ٱلأُمِّيِّينَ } . للإِشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم ، كان مقيما فيهم ، وملازما لهم ، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان . والتعبير بقوله { مِّنْهُمْ } فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإِيمان به ، لأن هذا الرسول الكريم ، ليس غريبا عنهم ، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه ، وفضلهم من فضله … وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ … } وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة ، يكون بتلاوة القرآن ، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس ، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس . ولذا قالوا إن تعليم الكتاب غير تلاوته ، لأن تلاوته معناها ، قراءته قراءة مرتلة ، أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه ، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه … فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ … } و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ … } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف … أى هو - سبحانه - بفضله وكرمه ، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم ، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل ، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإِسلام ، الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، من حيث العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات . . فكان من رحمة الله - تعالى - بهم ، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والاستقامة والإِيمان . ثم بين - سبحانه - أن رسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه … بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم ، فقال - تعالى - { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ … } . وقوله { وَآخَرِينَ } جمع آخر بمعنى الغير ، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك { فِي ٱلأُمِّيِّينَ … } فيكون المعنى هو - سبحانه - الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، كما بعثه فى آخرين منهم . { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى لم يجيئوا بعد ، وهم كل من يأتى بعد الصحابة من أهل الإِسلام إلى يوم القيامة ، بدليل قوله - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ … } أى وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به جميع من بلغه هذا الكتاب ، ووصلت إليه دعوته من العرب وغيرهم إلى يوم القيامة … وفى الحديث الشريف " بلغوا عن الله - تعالى - فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله " . وعن محمد بن كعب قال من بلغه القرآن فكأنما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - … ويصح أن يكون قوله { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ … } معطوف على الضمير المنصوب فى قوله { وَيُعَلِّمُهُمُ … } فيكون المعنى هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويعلم آخرين منهم { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى لم يجيئوا بعد وسيجيئون … وهم كل من آمن بالرسول من بعد الصحابة إلى يوم القيامة . قال صاحب الكشاف وقوله { وَآخَرِينَ } مجرور عطف على الأميين يعنى أنه بعثه فى الأميين الذين على عهده ، وفى آخرين من الأميين الذين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة . وقيل لما نزلت قيل " من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال " لو كان الإِيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء " . وقيل هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة . ويجوز أن ينتصب عطفا عل المنصوب فى { وَيُعَلِّمُهُمُ } أى يعلمهم ويعلم آخرين ، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله ، فكأنه هو الذى تولى كل ما وجد منه . … والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تشير على أن دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ستبلغ غير المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم - وأنهم سيتبعونها ، ويؤمنون بها ، ويدافعون عنها … وهذا ما أيده الواقع ، فقد دخل الناس فى دين الله أفواجا من العرب ومن غير العرب ، ومن أهل المشارق والمغارب … فالآية الكريمة تخبر عن معجزة من معجزات القرآن الكريم ، ألا وهى الإِخبار عن أمور مستقبلة أيدها الواقع المشاهد . وقوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تذييل المقصود به بيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شىء ، وأن حكمته هى أسمى الحكم وأسدها . أى وهو - سبحانه - العزيز الذى لا يغلب قدرته شىء ، الحكيم فيما يريده ويقدره ويوجده . واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ … } يعود إلى ما تقدم ذكره من كرمه - تعالى - على عباده ، حيث اختص رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرسالة الجامعة لكل خير وبركة ، وحيث وفق من وفق من الأميين وغيرهم ، إلى اتباع هذا الرسول الكريم … أى ذلك البعث منا لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لكى يهدى الناس بإذننا إلى الصراط المستقيم ، هو فضلنا الذى نؤتيه ونخصه لمن نشاء اختصاصه به من عبادنا … { وَٱللَّهُ } - تعالى - هو { ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } الذى لا يقاربه فضل ، ولا يدانيه كرم . كما قال - سبحانه - { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ثم انتقلت السورة الكريمة - بعد هذا البيان - لفضل الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى من أرسله لهدايتهم ، إلى الحديث عن جانب من رذائل اليهود ، وأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم وأن يرد على أكاذيبهم … فقال - تعالى { مَثَلُ ٱلَّذِينَ … } .