Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 5-8)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، فصلها الإِمام ابن كثير - رحمه الله - فقال ما ملخصه وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق نزل فى عبد الله بن أبى بن سلول وأتباعه ، فقد ذكر محمد بن إسحاق ، أنه لما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد غزوة أحد ، قام عبد الله بن أبى ، والرسول - صلى الله عيه وسلم - يخطب للجمعة ، فقال أيها الناس ، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرمكم الله به … فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له اجلس يا عدو الله ، لست لهذا المقام بأهل ، وقد صنعت ما صنعت - يعنون مرجعه بثلث الناس دون أن يشتركوا فى غزوة أحد - . فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول والله لكأنما قلت بَجْرًا - أى أمرا منكرا - أن قمت أشدد أمره . فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد ، فقالوا له ويلك ، مالك ؟ … ارجع للنبى يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال والله ما أبتغى أن يستغفر لى . وفى رواية أنه قيل له لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألته أن يستغفر لك ، فجعل يلوى رأسه ويحركه استهزاء … ثم قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله - ما ملخصه وذكر ابن إسحاق فى حديثه عن غزوة بنى المصطلق - وكانت فى شعبان من السنة الخامسة من الهجرة - " أن غلاما لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - اسمه الجهجاه بن سعيد الغفارى تزاحم على ماء مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وَبْر … فقال سنان يا معشر الأنصار ، وقال الجهجاه يا معشر المهاجرين . فغضب عبد الله بن أبى - وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم - وقال أو قد فعلوها ؟ ! ! قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا . والله ما مثلنا وجلابيب قريش - يعنى المهاجرين - إلا كما قال القائل " سمن كلبك يأكلك " والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليخرجن الأعز منها الأذل . فذهب زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر … فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ، مر عباد بن بشر فليضرب عنق عبد الله بن أبى بن سلول . فقال - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا الناس تحدث يا عمر ، أن محمدا يقتل أصحابه ؟ لا ، ولكن ناد يا عمر فى الناس بالرحيل . فلما بلغ عبد الله بن أبى أن ذلك قد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال الذى قاله عنه زيد بن أرقم … وراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجرا فى ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه أسيد بن الحضير ، فقال له يا رسول الله ، لقد رحت فى ساعة ما كنت تروح فيها . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما بلغك ما قال صاحبك بن أبى ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة أنه سَيُخْرِجُ الأعزُّ منها الأذلَّ . فقال أسيد فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل … وإنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الوقت الذى لم يتعود السفر فيه ، ليشغل الناس عن الحديث ، الذى كان من عبد الله بن أبى " . قال ابن إسحق ونزلت سورة المنافقين فى ابن أبىّ وأتباعه ، فلما نزلت أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد بن أرقم ثم قال " هذا الذى أوفى الله بأذنه " . وفى رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى زيد فقرأها عليه ثم قال " إن الله قد صدقك " ثم قال ابن إسحاق وبلغنى أن عبد الله بن عبد الله بن أبى بلغه ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له " يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل أبى … فإن كنت فاعلا ، فمرنى به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى ، وإنى أخشى أن تأمر غيرى بقلته ، فلا تدعنى نفسى أن أرى قاتل أبى يمشى على الأرض فأقتله ، فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر ، فأدخل النار . فقال - صلى الله عليه وسلم - " بل نترفق به ونحسن صحبته ، ما بقى معنا " . وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة ، وقف عبد الله بن عبد الله بن أبى على باب المدينة ، واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه قال له وراءك فقال له أبوه ويلك مالك ؟ فقال والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه العزيز وأنت الذليل . فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يسير فى مؤخرة الجيش شكا إليه عبد الله بن أبى ما فعله ابنه عبد الله معه . فقال ابنه والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له . فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال عبد الله لأبيه أما إذ أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجز الآن . والآن وبعد ذكر جانب من هذه الآثار التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، نعود إلى تفسيرها فنقول وبالله التوفيق . قوله - تعالى - { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ … } بيان لصفة أخرى من صفات المنافقين ، تدل على عنادهم وإصرارهم على كفرهم ونفاقهم . والقائل لهم { تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } جماعة من المؤمنين ، على سبيل النصح لهؤلاء المنافقين لعلهم يقلعون عن كفرهم وفجورهم . والمراد باستغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم توبتهم من ذنوبهم ، وتركهم لنفاقهم ، وإعلان ذلك أمامه - صلى الله عليه وسلم - لكى يدعو الله - تعالى - لهم بقبول توبتهم . وقوله { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } من اللى بمعنى الإِمالة من جانب إلى آخر ، يقال لوى فلان رأسه ، إذا أمالها وحركها ، وهو كناية عن التكبر والإِعراض عن النصيحة . أى وإذ قال قائل لهؤلاء المنافقين لقد نزل فى شأنكم ما نزل من الآيات القرآنية التى تفضحكم … فتوبوا إلى الله توبة نصوحا ، وأقلعوا عن نفاقكم ، وأقبلوا نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلب سليم ، لكى يستغفر الله - تعالى - لكم ، بأن يلتمس منه قبول توبتكم … ما كان من هؤلاء المنافقين ، إلا أن تكبروا ولجوا فى طغيانهم ، وأمالوا رءوسهم استهزاء وسخرية ممن نصحهم . { وَرَأَيْتَهُمْ } أيها المخاطب { يَصُدُّونَ } أى يعرضون عن النصيحة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن قبولها ، لانطماس بصائرهم ، وإصرارهم على ما هم فيه من باطل وجحود للحق . قال الآلوسى ما ملخصه روى أنه لما صدق الله - تعالى - زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبى ، مقت الناس ابن أبى ، وقال له بعضهم امض إلى رسول الله - صلى الله عيه وسلم - واعترف بذنبك ، يستغفر لك ، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأى ، وقال لهم لقد أشرتم على بالإِيمان فآمنت ، وأشرتم على بأن أعطى زكاة مالى فأعطيت … ولم يبق لكم إلا أن تأمرونى بالسجود لمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وفى حديث أخرجه أحمد والشيخان … أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم ليستغفر لهم ، فلووا رءوسهم … وقوله { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ … } مجزوم فى جواب الأمر ، وهو قوله { تَعَالَوْاْ } وقوله { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } جواب { إِذَا } . والتعبير بقوله { تَعَالَوْاْ } تتضمن إرادة تخليص هؤلاء المنافقين مما هم فيه من ضلال ، وإرادة ارتفاعهم من انحطاط هم فيه إلى علو يدعون إليه ، لأن الأصل فى كله " تعالى " أن يقولها من كان فى مكان عال ، لمن هو أسفل منه . والتعبير بقوله - تعالى - ، { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } يرسم صورة بغيضة لهم وهم يتركون دعوة الناصح لهم ، بعناد وتكبر وغرور ، وبراهم الرائى بعينه وهم على تلك الصورة المنكرة ، التى تدل على جهالاتهم وإعراضهم عن كل خير . وقوله - سبحانه - { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ … } تيئيس له - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم ، ومن قبولهم للحق . ولفظ " سواء " اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به الفاعل . أى مستو ، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما فى قوله - تعالى - { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ … } أى مستوية . أى إن هؤلاء الراسخين فى الكفر والنفاق ، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك ، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل ، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب … ولذلك فلن يغفر الله - تعالى - لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم . وقوله - سبحانه - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } تعليل لانتفاء المغفر من الله - تعالى - لهم . أى لن يغفر الله - تعالى - لهم ، لأن سنته - سبحانه - قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته ، وأن لا يشمل بمغفرته ، من فسق عن أمره ، وآثر الباطل على الحق ، والكفر على الإِيمان ، لسوء استعداده ، واتباعه لخطوات الشيطان . وقوله - سبحانه - { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ … } كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم ، وحكاية لجانب من أقوالهم الفاسدة … والقائل هو عبد الله بن أبى ، كما جاء فى روايات أسباب النزول لهذه الآيات ، والتى سبق أن ذكرنا بعضها . ونسب - سبحانه - القول إليهم جميعا ، لأنهم رضوا به ، وقبلوه منه . ومرادهم بمن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون الذين تركوا ديارهم فى مكة ، واستقروا بالمدينة . أى إن هؤلاء المنافقين لن يغفر الله - تعالى - لهم ، لأنهم فسقوا عن أمره ، ومن مظاهر فسوقهم وفجورهم ، أنهم أيدوا زعيمهم فى النفاق ، عندما قال لهم لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين ، ولا تقدموا لأحد منهم عونا أو مساعدة ، حتى ينفضوا من حوله . أى حتى يتفرقوا من حوله . يقال انفض القوم إذا فنيت أزوادهم يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض ، إذا انتهى زاده وليس مرادهم حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه ، فإذا فعلوا ذلك فانفقوا عليهم . وإنما مرادهم ، استمروا على عدم مساعدتكم لهم ، حتى يتركوا المدينة ، وتكون مسكنا لكم وحدكم . وقوله - سبحانه - { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } . والخزائن جمع خزينة ، وهى ما يخزن فيها المال والطعام وما يشبههما ، والمراد بها أرزاق العباد التى يمنحها الله - تعالى - لعباده . أى ولله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ، ملك أرزاق العباد جميعا فيعطى من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك ولا يدركونه ، لجهلهم بقدرة الله - تعالى - ، ولاستيلاء الجحود والضلال على نفوسهم . ثم حكى - سبحانه - قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ … } . والقائل هو عبد الله بن سلول ، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله ، ووافقوه عليه . وجاء الأسلوب بصيغة المضارع ، لاستحضار هذه المقالة السيئة ، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم . والأعز هو القوى لعزته ، بمعنى أنه يغلب غيره ، والأذل هو الذى يغلبه غيره لذلته وضعفه . وأراد عبد الله بن أبى بالأعز ، نفسه ، وشيعته من المنافقين ، وأراد بالأذل ، الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين . والمراد بالرجوع فى قوله { لَئِن رَّجَعْنَآ } الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق . أى يقول هؤلاء المنافقون - على سبيل التبجح وسوء الأدب - لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة ، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة ، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل ، بل تصبح خالية الوجه لنا . وقد رد الله - تعالى - على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } . أى لقد كذب المنافقون فيما قالوا ، فإن لله - تعالى - وحده العزة المطلقة والقوة التى لا تقهر ، وهى - أيضا - لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين ، وهى بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين . وقال - سبحانه - { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } بإعادة حرف الجر ، لتأكيد أمر هذه العزة ، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وحده . وقوله - تعالى - { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } استدرك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين ، أى ليست العزة إلا لله - تعالى - ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم ، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل ، لعلموا أن العزة لدعوة الحق ، بدليل انتشارها فى الآفاق يوما بعد يوم ، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين ، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت . قال صاحب الكشاف قوله - تعالى - { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ … } أى الغلبة والقوة لله - تعالى - ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ، ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أن المذلة والهوان ، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن الحسن بن على - رضى الله عنهما - أن رجلا قال له إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، قال ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية . وقال الإِمام الرازى العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه - لغير الله - فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها فى غير موضعها اللائق بها ، كما أن الكبر جهل الإِنسان بنفسه ، وإنزالها فوق منزلتها ، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، فالتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم والعزة محمودة . … هذا ، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفى أسباب نزولها ، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر . يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه - صلى الله عليه وسلم - بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التى قالها عبد الله بن أبى ، لكى يثير الفتنة بين المسلمين ، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب ، بأن ينادى فى الناس بالرحيل … لكى يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى ، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه . كما يرى كيف أنه - صلى الله عليه وسلم - عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعندما أشار عليه عمر - رضى الله عنه - بقتل بن أبى … ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال له يا عمر ، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟ ! وأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بقتله بل ترك لعشيريته من الأنصار تأديبه وتوبيخه . ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله - رضى الله عنه - وهو أقرب الناس إليه ، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها . كما يرى المتدبر لهذه الآيات ، والأحداث التى نزلت فيها ، أن النفوس إذا جحدت الحق ، واستولت عليها الأحقاد ، واستحوذ عليها الشيطان … أبت أن تسلك الطريق المستقيم ، مهما كانت معالمه واضحة أمامها … فعبد الله بن أبى وجماعته ، وقفوا من الدعوة الإِسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها ، وسلكوا فى إذاعة السوء حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول أصحابه كل مسلك … مع أن آيات القرآن الكريم ، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء ، ومع أن إرشادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تصل إليهم يوما بعد يوم ، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم … كما نرى أن الإِيمان متى خالطت بشاشته القلوب ، ضحى الإِنسان من أجله بكل شىء … فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول ، يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل أبى ، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه … ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه ، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدخولها ، وحتى يقول إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز ، وأنه هو - أى عبد الله ابن أبى - هو الذليل . وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات … ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين ، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله - تعالى - وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وتحضهم على الإِنفاق فى سبيل إعلاء كلمته - سبحانه - ، وعلى تقديم العمل الصالح الذى ينفعهم قبل فوات الأوان ، قال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ … } .